مدن الظلال…. قصة قصيرة بقلم خير الله قاسم

في زقاقٍ ضيق، تفوح منه رائحة العرق والرماد، كان “شوكت” يمشي بخطوات متثاقلة. لم يكن يبحث عن شيء، بل عن لحظة صمتٍ لا تعجّ بضجيج المدينة، ولا بصوت بائع الهوى وهو يقرع الطبول في زوايا الأرصفة.
كانت مدينته — تلك التي وُلد فيها وكبر على ترابها — قد غيّرت جلدها.
أزقتها التي كانت يومًا تمتلئ بضحكات الأطفال، باتت الآن مرتعًا للمنهكين من الحياة، للسكارى، للمهووسين بالهروب.
تحت سماءٍ رمادية، وأمام أضرحة الأولياء، كانت الجنائز تمرّ، بلا صلاة، بلا دموع، فقط أصوات النحيب المدفون في حناجر النساء.
“شوكت” لم يكن وحده.
كان هناك أيضًا “قمر”، فتاة في التاسعة عشرة من عمرها، تتعثر بعباءتها الطويلة كلما همّت بالركض من ظلّ إلى ظل، تتفادى نظرات باعة الليل، وتحمل في يدها الصغيرة دفتراً فارغاً، تحاول أن تملأه بالحروف كي لا تنساها المدينة.
في أحد الأيام، التقيا عند سورٍ مهدّم من الطين، فوقه آثار كفّ طفل جفّت منذ زمن.
نظر إليها وقال:
“هل تكتبين؟”
أومأت برأسها.
“أحاول أن أكتب مدينةً لا تخون أبناءها.”
ابتسم ابتسامة مُنهكة، وقال:
“حين تنجحين، خذيني معكِ.”
بدأت “قمر” تكتب عنه. عن عينَيه المطفأتين، عن جسده الذي يشبه شوارع المدينة: متعب، مشقّق، محتلّ من الداخل. وبدأ هو يحكي لها عن الأزقة، عن المقامات التي صارت تُشيَّع منها الجنائز لا تُقام فيها الصلوات، عن الأطفال الذين صاروا يعبدون الأرصفة بدلًا من الحلم.
معًا، صارا يمران كل مساء على المساطب المظللة بشجيرات الآس و”ملكات الليل”.
هناك، حيث تنبعث موسيقى مشوّهة من طبول مشقّقة، جلسا. كانت قمر تكتب، وشوكت يروي.
وذات مساء، لم يأتِ “شوكت”.
بحثت عنه في كل المقامات، في زوايا الأرصفة، عند الجدار المتهالك حيث التقيا أول مرة. لم تجده.
سألت عنه باعة الليل، قُصّابي الكلام، والسكارى. لا أحد يعرف.
بعد أيام، وجدت نعشًا صغيرًا يخرج من الجامع، بلا دف، بلا جنازة، بلا اسم.
لمحت طرف عباءةٍ مألوفة يُطوى داخل التابوت. كتبت فوقه، بخطّها المرتجف:
“هنا يرقد من كان يحاول أن يتذكّر.”
ومن يومها، لم تعد “قمر” تكتب عن المدينة. بل عنها.