كتاب وشعراء

مزيْوِدُ خالتي……… بقلم // علي درويش // المغرب

مزيْوِدُ خالتي…
بقلم : علي درويش
•••••••
سؤالان حيرا محيط خالتي: عمرها ورصيدها؟ أما العمر فيقول شيخ القبيلة إن خالتي عايشت ملوك المغرب جميعهم، وأما الرصيد فهو ما تكنزه داخل ذلك المزود الجلدي الصغير الذي تربط عنقه بِلَيِّ خيط جليدي حوله بإحكام، قبل أن تخفيه في أعماق صدرها ولا تخرجه إلا لتزوِّده بما يمدها به من يعيدها ليطمئن على صحتها، فتدعو له بكلمة لم أفهمها أبدا. كذلك تفتح مزيودها لإكرام الفقيه المعالج، كلما أغمي عليها.
غالبا ما يُغمى على خالتي مرتين أوثلاثا في الأسبوع، فتأمرني أمي بأن أسرع لإخبار الفقيه، فأقفز فوق ظهر الحمار الأسود ليعدوَ ركضا ذهابا وإيابا. وحين يلحق بي الفقيه يبسمل ويستعيذ بالله من شياطين الجن والإنس، ثم يجثو على ركبتيه، قرب رأس خالتي، ويمسك سبابتها وهو يتمتم بكلمات غير مسموعة إلى أن تتحرك، فتعجل أول ما تفعل، بالتأكد من أن محفظة نقودها لاتزال داخل حصنها المنيع الآمن، ثم تستدير الى الجهة الأخرى، لتخرج قطعة نقد لم نعرف قيمتها قط، وتضعها في كف الفقيه، فيغادر وهو يدسها تحت جلبابه دسا مرددا :
-طهور، طهور. …
في انتظار أن يعود مرات أخرى…
شاع خبر رحيل الفقيه ذات صباح، فتهامست النسوة عمن سيوقظ خالتي من موتها المتقطع.
صرتُ أتخيل أن خالتي قد رحلت في صمت فجأة ، فشغلني سؤال محير عمن المحظوظ الذي سينال شرف انتزاع مزيود خالتي الصغير، ذلك الكنز الذي ظلت تحميه بحرص شديد.
انشغلت بالأمر، ولم أعد أبتعد كثيرا عن المنزل، بل صرت أطل كل مرة على الزاوية التي تربض فيها خالتي مثل كتلة من صوف، فهي تفترش الصوف وتلتحف الصوف وتسند رأسها على وسادة من الصوف مزركشة، وكلما لاحظتُ أنها أغمضت عينيها، سألت أمي باستعجال وبصوت خافت:
-هل ماتت؟؟ هل ماتت فعلا يا أمي؟؟…
لكن غالبا ما يأتيني الجواب على هيئة نعل طائش يطير نحوي كالصاروخ، وبحمد الله ولطفه كان يخطئني دائما أويسقط بالقرب مني مثل صواريخ العرب آنذاك، إلا نعلا واحدا أصاب كتفي حتى كاد ينتزعها، فهرعت هاربا ولم أتوقف إلا وأنا على حافة الوادي، آخذ الطين البارد وأضعه على كتفي لأخفف من وقع الإصابة.
فجأة، سمعتُ إحدى النساء تناديني بإلحاح، وهي تدعوني لأن أسرع، فالحاجة تريديني حالا، لأن خالتي أغمي عليها ثانية.
ترددت وأنا أضع يدي على كتفي، خشية أن تنتزع الوالدة كتفي المتبقية، ثم تمتمت:
-تريدني؟؟ أنا؟ وماذا تريد مني يا ترى؟؟ وهي تعلم بأنني لست فقيها ولا ربع فقيه حتى؟؟
دخلت فإذا بالنسوة يجلسن بالقرب من رأس خالتي، وهن يتهامسن، وبعضهن يضعن أيديهن على خذوذهن كأنما يتأهبن للصراخ ولطم الخذوذ إن طرأ طارئ. كدت أسأل :
-هل ماتت؟ لكنني تذكرت أن ألم الاصابة لم يخف بعد، كما تذكرت قول الشيخ بأن خالتي لن تموت حتى تدفن أهل الدوار جميعهم.
نظرت إليها بصمت ودنوت بوقار متصنع، فإذا بإحداهن تسألني:
-أكيد، لازلتَ تحفظ شيئا من “القِراية” التي حفّظك الفقيه أو تعلمتها في المدرسة؟؟..
هززت رأسي بقوة، كما يفعل الواثق من نفسه:
-نعم… طبعا.. أكيد.. لا زلت . لازلت… وكيف أنسى؟
دنوت من خالتي، وأنا أدعو الله ألا تستيقظ أبدا، أمسكت بسبابتها بإحكام كما لو كنت معالجا متمرسا..لكن، يا للهول!، ! يا للعنة! نسيتُ كل ما حفظت ، المعوذتان أيضا تبخرتا كما لم أرددهما أبدا.
وكل ما أذكره في هاته اللحظة الحرجة هو:
“La Chèvre de Monsieur Seguin”
طيب ولِمَ لا؟؟ صرت أتمم بمقاطع من القصة، وحين أنسى جملة أشرع في العد:
Un..deux…trois..vingt
المهم ألا أسكت، بغثةً، تحركت رجل خالتي، فكرت في الهرب، لكنني محاط بنسوة شديدات متمرسات على الركض، ضغطت على أصبعها أكثر، ففتحت عينيها ونظرتْ إليّ بعينين غائرتين مثل فوهتيْ بندقية، رددتُ عليها مبتسما بتكلف وقلبي يرتعد، فإذا بها تُدخل يدها في كهف صدرها المظلم لتخرج المزود العجيب، يا سلام! كم كان جميلا مغريا، لأول مرة أراه عن قرب، وأخرجت بين أصبعيها قطعة نقدية نحاسية وضعتْها في كفي، فوقفتُ وأنا أردد عشرات المرات مغادرا المنزل:
-طهور… طهور ..طهور.. طهور، وقفزتُ على ظهر الحمار، فانطلق يعدو بعيدا نحو أي مكان، كان المسكين يَتعبُ لأسعدَ أنا بعطلة كانت من أسعد عُطلي وأوفرها دخلا…
نهاية العطلة على الأبواب والسينما، نعم السينما في انتظاري وجيبي مليئ بقطع نقدية نحاسية صفراء، وأنا أتمنى ألا تموت خالتي قبل العطلة المقبلة.
ع.د

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى