رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب: الأمل الزائف أكبر مصادر الخداع

واحدة من استراتيجيات الخداع، هو ابلاغ الناس أن قرارات موجعة وجريئة ستصدر قريبا،
لأن الناس تؤمن أن المستقبل أفضل من الحاضر، تحب التخيل أكثر من التفكير العقلاني،
وانتظار هذا القرار المتعلق بقضية حيوية هو أفضل من اللانتظار المشحون باليأس والتذمر وحتى الانفجار لأن الفراغ موحش والوهم يملأ الفراغ ،
موعد بعيد لحل أزمة يمنح الحاكم الكثير من الوقت لترتيب أوضاعه وتهدئة المشاعر الساخطة وعندما يأتي وقت الموعد ستكون هناك أبواب طوارئ كثيرة وتكون أزمة حادة قد تم تصريفها وخلال فترة الانتظار يكون الناس قد وقعوا في متاهات ودوامات ونسوا الوهم المنتظر.

مهما كانت درجة وعي الناس بسيطة ومضطربة لكن لا يمكن ممارسة اسلوب الخنق في حاجات حيوية الى الأبد كالحرية والأمن والحياة رغم أن الانسان يعشق الاوهام المنقذة للهروب من حقائق خانقة. عادة يرسم سجناء الزنازين صورة الشمس او الحقول او القمر أو شاطئ مشرق كهروب من عالم الزنزانة الضيق.

في حالة بقاء الكف على أفواه الناس لفترات طويلة بلا نتيجة ،ستكون النتيجة إما الانفجار أو الجنون بتقاليد تساعد على التخفي والحفاظ على المظاهر الخارجية سليمة،
وفي مجتمع جريح لا أحد يفطن لمن يهلوس لأن الجميع في دوامة ويضيع الابتر بين البتران، لكن ما يلفت نظر هؤلاء هو وجود عاقل أو حكيم،
لأن هذا سيكون الظاهرة المنحرفة في جنون مغطى.

مطمئن ومفرح أن تعلن للناس عن فرص عمل للخريجين وزيادة راتب للعمال مثلا وبناء مجمع سكني للدولة ويمكن وضع جداريات كبيرة في الشوارع عن شقق سكنية وحدائق وأشجار وأطفال فرحين والخ لتعزيز الوهم.

كما هو مفرح أن تعلن للغرقى موعد وصول باخرة أو طائرات الانقاذ، ودع هؤلاء في الخطر والجزع يكملون الباقي من أحلام النجاة بل هم يرون الآن أي طائر أو غيمة أو تمساح كسفن إنقاذ وقوارب نجاة،
وأكثر العلماء الذين صبوا نار غضبهم على “التفاؤل الساذج” ويسمى البانغلوسية Panglossian هو عالم النفس والفيلسوف وعالم الاجتماع أريك فروم.

” لا تفرش سجادة انتظار لأفراحك” لا شيء يستنزف الانسان اكثر من الخوف والامل والانتظار الزائف مصدر للخداع الذاتي والكذب على النفس.

سوف لن يخطر ببال هؤلاء كيف ستصل السفن والقوارب المنقذة في هذه العواصف العاتية والظلام العميق والأمواج لأن التركيز على الموعد والوقت هو الحقيقي،
حتى لو كان خداعاً والانسان المتوحل العالق في مأزق لا يفرق بين
الحقيقة والوهم لأنه يرجع في حالة نكوص عمري لسن الطفولة ويصبح قابلاً للتلقين وتصديق كل الاحتمالات.

ستتصاعد من السفينة المشرفة على الغرق، طبول الردح والنفخ كما لو أن التاريخ القادم سيمشي بخط مستقيم، كما لو أننا في زمن صحراوي وليس في عالم صار غابة وتحولت دول ديمقراطية الى قراصنة يسرق بعضها لقاح البعض وحتى سفن كمامات الكورونا قبل سنوات وتشاهد اليوم علنا إبادة شعب في غزة بصمت المشارك.

في العالم العربي والاسلامي لم يكن التاريخ يوماً نتاج تسلسل منطقي للأحداث ولا حتميات ولا أسباب تقود الى نتائج، بل هناك دول تلاشت نتيجة حماقات ومصادفات وحتى نزوات زوجات غيورات لملوك في كتم أنفاسهم
وهم في النوم أو رصاصة أو سهم طائش من عدو أو خنجر مسموم لشيخ أو سلطان وهو في الحمام.

العقيد الركن يومها سعدون غيدان حامل مفاتيح القصر الجمهوري المتواطيء مع الانقلابيين صباح 17 تموز 1968 تأخر في الوصول الى القصر حسب ساعة الصفر لتسليم المفاتيح لأنه كان قد قضى ليلته مع عشيقة ونسي ساعة الصفر. حاول الانقلابيون الانصراف خوفا من الانكشاف لكن نزل كولونيل الليلة الحمراء مترنحا من السيارة ومعه تاريخ يترنح ويتشكل حتى اليوم. هكذا يصنع التاريخ في العراق.

راقصة ملهى كانت تعرف ليلة الانقلاب على الزعيم عبد الكريم قاسم في الثامن من شباط 1963 عن طريق ضابط انقلابي عشيق متوله.

الامبراطور الروماني جوليان كان في الطريق الى بابل في القرن الثالث بعد الميلاد لكن عدواً قنص له قرب تمارا، سامراء اليوم، وكتم أنفاسه بسهم وفشلت الحملة.

تاريخ اليوم أكثر جنوناً ولا منطقية من تاريخ الأمس، وحدث واحد، حماقة أو صدفة أو خطة، في بلد مشحون بالسلاح والضغائن والاوجاع والاحزان والمصالح الكثيرة المتعادية مثل كدس تبن يشتعل من عود ثقاب، قد يقلب كل الحسابات والتوقعات.

الأمل الزائف الساذج أو البانغلوسين Panglossian، أكبر مصادر الأوهام والخيبات وهو نظام المتاهة والحلقة المفرغة وهو وقوع في مثرمة داخلية تسحق النفس والجسد ونوع من الانتحار الرمزي غير المدرك لنفسه كمحاولة لاوعية للهروب من الأسر والحصار بتمزيق الذات من خلال الاجترار والدوران في متاهة سراب لا تنتهي ثم يتحول الاجترار الى سلوك طقسي مكرر،
وهو أخطر من المخدرات لأنه لا يزول ولا يمكن الاقلاع عنه بعد أن تحول الى مبادئ وعلاقات وعادات ثابتة ونظام حياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى