حمزه الحسن يكتب : اليسار الطائفي

عندما تقوم بوصف مثقفين غربيين باليسار، إنما تصف منظومة من الأفكار والتصرفات والمبادئ الواضحة والأهداف المختلفة عن اليمين،
لكن على المستوى العراقي عندما تصف مجموعة باليسار،
فلا تصف شيئاً محدداً، لأنه يركض في موكب عزاء كربلائي كإسلاموي ويفكر في السهر في حانة سرجون أو كاردينيا كيساري تلك الأيام، يمشي على طريق اليمين لكنه يضيء الضوء الخلفي للسيارة على جهة اليسار ، يساري في الشكل ولا هو يميني بالمضمون وهو كل شيء أو لا شيء.
يخطب عن حرية المرأة في الندوات والمحاضرات والكتابات لكنه كل ليلة يأتي سكران ويكسر الفرفوري ـــــــــ أواني خزفية ــــــــ أو تعثر عليه عالقاً في حفرة للصرف الصحي منتصف الليل ثملاً بعد محاضرة عن نهاية التاريخ والشيوعي الأخير.
ثوري بلا مشروع ثورة وكلفتنا مشاريعه حمامات دم وتنصل منها بلا اعتراف بخطأ لأن الآلهة لا تعرف الخطأ. بزاخ، نفاخ، استعراضي، لا يصك ولا يفك، حكواتي عن الهروب والاختباء في التنانير والقفز على الحيطان بلا أي انجازات فكرية أو ثقافية عدا مذكرات عن مؤتمرات وخيانات وحملات تشهير جرت في أوكار سرية كما لو أنك تقرأ رواية بوليسية وصورة الغلاف للرفيق المؤلف من أيام المراهقة وهو من مواليد عشرينات القرن الماضي كما لو أنه سرق عشبة الخلود من كلكامش : عندنا في السياسة حرس قديم وفي الأدب حرس قديم وحتى في الغرام حرس قديم ، ولصوص اليوم لا يملكون شهامة لصوص الأمس بحرمة سرقة الأرملة واليتيم والضيف والغريب والمريض، يوم كانت للصوصية مرجعية أخلاقية وقواعد شرف.
الطائفية ليست ظاهرة تعصب دينية فحسب، وهناك طائفية علمية والتمسك بالحرفيات، وطائفية سياسية والتمسك بالنصوص، والذين يشنعون على الطائفي الديني، ينسون أنهم أكثر منه طائفية وأخطر،
كيف حدث ذلك؟
الطائفي المذهبي يعيش في عالم مغلق، وكل شيء مكتمل في نصوص،
ويمكن تعديل الواقع لو اختلف مع النص، وهي نفس عقلية اليساري الطائفي،
الايديولوجيا ـــــــــ النص حدد عالمه المتكامل والمغلق واذا اختلف الواقع مع النص،
يتم قهر الواقع والجغرافيا حتى تنسجم مع النص، ولو تم نقل جماعة عرقية واقتلاعها من المكان الى مكان آخر:
ستالين هجّر تتار القرم ونقلهم الى مكان آخر، وصدام هجر الكرد ونقل قسماً للسهول وللجنوب. مع ان الجغرافيا أكثر الحقائق صدقا وخلودا لكنه مع العقل الاختزالي يجب أن تُصحح لصالح الفكرة والنص والعقيدة.
كلاهما يحجزان الزمان والمكان ولا مساحات رمادية ولا تسويات ولا انصاف حلول،
إما الدمج أو المحو، الكل أو لا شيء. حسب الفيلسوف بول ريكور في وصف الايديولوجيا.
كلاهما يرفضان التنوع والاختلاف لان العقلية تحتكر المكان والزمان، واذا تمسكا بإسطورة سياسية أو دينية، النتيجة مذبحة. لذلك لا تتواجد أكثر من عصابة في شارع أو مقهى أو حانة وحتى في سجن. العصابة تحتكر الزمان والمكان لذلك قام النظام السابق بحملة تصفية ضد الشقاوات ـــــــــ الفتوات ـــــــ ولم يسلم إلا من إندمج في الأجهزة الأمنية، لأن نظام العصابة لا يسمح بالمنافسة.
هنا وهناك” حنديرة خيول” ــــــــــــ جلدة توضع على عيون الخيل لكي ترى الأمام فقط ـــــــــــ على شكل نظرية طائفية أو سياسية أو برنامج حزبي. هنا فتوى الشيخ وهناك قرار الرفيق. هنا طاعة الشيخ وهناك الطاعة المركزية: الاختلاف في الالفاظ فقط.
كلاهما يحنط خصومه في موقف او مواقع ويعطيهم رمزا للحفظ مدى الحياة كما لو الانسان ملف او مخزن للاثاث وليس موجة تحولات وطاقة تغيرات.
الطائفي المذهبي يرجع للنص لو واجهته مشكلة في الحياة لأن النص هو الحياة، والحياة ظل،
اليساري الطائفي ــــ المتعدد العناوين من القومجي الى الشيوعجي أو الثورجي أو الليبرالجي وهم في كل الأحوال عقلية واحدة وحزب واحد ــــ يعود للنص لمساءلة الحياة، هنا وهناك نص ومرجعية، ليست الحياة خضراء بل رمادية والنص أخضر.
النص حي والحياة تفصيل عابر . الحقائق، حسب هذا الهراء، في النصوص لا في الحياة. يجب تغيير الحياة لكي تناسب النصوص كما فعلت النظم الشمولية وتحطمت.
الاول يريد من الاخر المختلف التوبة والثاني يريد من المختلف النقد الذاتي: نزع الهوية الفردية في الحالتين.
الأول يريدك أن تموت باسم المقدس والثاني يريدك أن تموت باسم النظرية، الأهم أن تموت لكي تكتمل في نظر هؤلاء البهائم وتحمل هوية جديدة مقدسة.
لست انت كما تريد بل كما نريد. الاول مغلق على حكايات وحكم ومواعظ ومصدق انه مجاهد،
والثاني قافل على حكايات وحكم ونصوص ومصدق انه مناضل،
وكم كانت الدهشة بحجم الكون عندما عرفت ان عالم هؤلاء تعاقب عليه القوانين في دول الحداثة لانه عالم مافيوي مغلّف كما ان قواعد الاحزاب في الترويض نفس قواعد تعليم الكلاب المنزلية على بعض العادات: التكرار، التلقين، العقاب، المكافأة.
الطائفي المذهبي يعلن حرباً على أعداء لا يعرف من هم لكنه ملقن من الشيخ على عقلية الخصومة،
والطائفي اليساري الثورجي التتنجي يعلن حرباً على اعداء لا يعرفهم
لانه ملقن من الرفيق،
الأول تلقى أمراً والثاني تلقى توجيهاً، هنا ببغاء وهناك ببغاء وتختلف الوان الاقفاص.
هنا وهناك عواء كلاب في الليل دون معرفة السبب عندما تدوس كلباً في الظلام: ذهنية التلقين. التعصب في الحالتين إرهاب.
الطائفي المذهبي يؤمن بزمن واحد هو زمن التأسيس ويفسره على هواه،
ويلغي الازمنة وحلمه العودة للسلف الصالح،
والوهابي اليساري عنده زمن تأسيس الحزب وولادة الايديولوجيا ويفسرها على هواه ويلغي الأزمنة، ويحلم بالعودة الى زمن النص والقائد المؤسس،
هنا وهناك تغييب للعقل واستقالة عقلية.
كل لحظة في الحياة هي تٍاسيس، والحياة والبشرية تنتج أفكاراً جديدة ولسنا في متحف الشمع.
الاخر غير الشبيه للطائفي المذهبي عدو وكافر يجب أن يقتلع، والمختلف للطائفي اليساري عدو طبقي يجب ان يقتلع،
هناك جهاد وهنا عنف ثوري، في الحالتين قتل بلغة تبرير. لا قتل بلا لغة مبررة.
الطائفي المذهبي غارق في الطقوس ومراثي الماضي،
الحاضر عورة ونكبة ويجب تصحيح الحاضر لكي يشبه الماضي الصالح،
والطائفي اليساري غارق في طقوس التأبين ومراثي الماضي والحاضر نكبة ويجب تصحيحه لكي يشبه الماضي” الثور ــــ ي “.
كل رموز الطائفي المذهبي في الماضي، الحاضر عقيم ومخصي، وهو في زمن عائم، وكل رموز اليساري الطائفي في الماضي، زمن المشانق والاعدامات بلا سر ثورة. الحاضر نقص وعوز وخطأ. الأول يريد العودة الى الزمن الصالح والثاني يريد العودة الى زمن التأسيس في عالم عاصف ومضطرب ومتغير.
سلاح الطائفي المذهبي فتوى الشيخ، وسلاح الطائفي اليساري قرار الرفيق،
هنا وهناك تابع ومتبوع وشيخ ومريد.
هنا طاعة عمياء للشيخ وهناك طاعة عمياء وانضباط مركزي للرفيق. في الحالتين تسليم المصير: أنت تسأل ونحن نجيب.
كل الأجوبة في النص للطائفي المذهبي، وكل الاجوبة في النص للطائفي اليساري: رغم الفوارق في الشكل لكن العقلية واحدة. الغاء، اقصاء، محو، دمج، لا تسويات، لا أنصاف حلول، لا مساحات رمادية.
رغم كل المذابح لكن لم يعترف هؤلاء بخطأ أو خطيئة بل ظهر ان الكوارث من صنع أشباح لأن الآلهة لا تعترف أمام البشر مع ان الاعتراف بالخطأ فضيلة أو في الأقل إحترام الشوارب الثورية التي لم تعد تصلح حتى لمسابقات القطط.