كتاب وشعراء

اشراقات الإبداع..وتجليات الأسلوب الفني في قصيدة (كَمْ منطِقٍ فِيهِ الحقيقةُ تُقلَبُ) للشاعرة الفلسطينية المغتربة الأستاذة عزيزة بشير …..بقلم محمد المحسن

كُلُّ أهلِ القطارِ يعودون للأهلِ، لكننا لا نعودُ إلى أي بيتٍ”.( محمود درويش)

-قوة الأمل لا تأتي دائمًا من قوة التعبير عن نهاية متفائلة لمجزرة إنسانية،لأن قوة الحزن وحتى قوة اليأس إذا عبر عنها بإبداع تخلق أملًا،وهو أمل القدرة البشرية على الإبداع».* ( الشاعر نفسه)

-فلسطين..أبحرتُ مبتعدا عن متاهات روحي فيك..فإنّي من أمّة تنفجر في ليلها الصحراء..وما غرابة لا أرى في عيونك غير المواجع..ما بهذا إنتقاء..فأنتِ تنامين على أرض مجزأة..والتجزؤ فيها جزاء..لكنّك في الفكر والرّوح أصل..ومن معجز الملتقى..توحّد فيك الثرى والفضاء..” (مظفر النواب-بتصرف).

ظل الأدب الفلسطيني عبر تاريخه الطويل خيط المسبحة الذي ربط قضية العرب المركزية فلسطين بالعرب بشكل عام والفلسطينين بشكل خاص،ولم يتوقف هذا الأدب وهو يضخ الدماء في شريان القضية الفلسطينية وفي ضمير الفلسطيني الذي قدم رغم تغريبته نماذج أدبية أخذت مكانها على خارطة الأدب العالمي في إصرار على تاكيد الهوية الوجودية لأرضٍ وشعبٍ وقضيةٍ،فكانت أصوات غسان كنفاني وعبد الكريم الكرمي ومحمود درويش ومعين بسيسو وسيمح القاسم وراشد حسين- وغيرهم من الأسماء التي لايتسع مقال لذكرها-الرعيل الذي أسس لنوع جديد من الأدب في تاريخ الأدب العربي أطلق عليه ” أدب المقاومة”-1-والذي مازال موروثاً ملتصقاً بذاكرة فلسطين،تتوارثه الأجيال جيل بعد جيل.
من هنا،تظل القضية الفلسطينية أحد أكثر القضايا المعاصرة في العالم تقضُّ مضاجع المنابر السياسية،وتحرك الأقلام الداعمة للحرية والعدالة الإنسانية،فما من شاعر إلا وقد سخّر شعريته الطافحة مُنافحا عنها،وعيا منه برسالة الفن في خدمة القضايا الإنسانية العادلة،ويُحسب للقضية الفلسطينية دورها في إثراء نظرية المقاومة الثّقافية وتجديد موضوعاتها..
لقد كتبت عددا من المقالات حول الشاعرة الفلسطينية السامقة الأستاذة عزيزة بشير وحاولت من خلالها تأكيد الجوانب الاستثنائية في تجربتها الإبداعية،وقدمتها أيضًا-بكل فخر واعتزاز-في صورة الشاعرة المعبرة عن قضية بلادها،ومساعي الشعب الفلسطيني للتحرر من عقال الاحتلال.هذه الشاعرة منحت شعرها بُعدًا إنسانيًّا تجاوزت عبره إطار الجغرافيا (فلسطين/جنين) ليصبح حاضرًا في التاريخ.
ونظرا لاعتبارات فكرية وأخرى فنّية ركّزت هذه القراءة المتعجلة على الشعر الوطني الفلسطيني في مقاربة دلالية حجاجية لقصيدة (كَمْ منطِقٍ فِيهِ الحقيقةُ تُقلَبُ..!) لهذه الشّاعرة الفلسطينة الفذة الأستاذة عزيزة بشير لاستجلاء مكنونات الخطاب الشّعري ورسائله السّامية في خدمة المقاومة الثّقافية الفلسطينية التي تواكب الأحداث اليومية في صراع الفلسطيني مع الآخر المحتل..
وتجسد قصيدتها “كَمْ منطِقٍ فِيهِ الحقيقةُ تُقلَبُ..! ” هذا المسعى بوضوح فقد كتبت :
…كَمْ منطِقٍ فِيهِ الحقيقةُ تُقلَبُ… !
هذي الحكايةُ والحقيقةُ أغْرَبُ
يَهوَى الرّجوعَ لِقُدسِهِ ؛ فَيُجَنَّبُ!
وهْيَ الغريبةُ تُرْتَشى ؛ لِتَوَطُّنٍ
في(قُدسِهِ) في أرضِهِ …. وَتُرَغَّبُ !
تِلكَ الغرابةُ ! كيْفَ ذاكَ يكونُهُ؟
أشَريعُ غابٍ بالدِّماءِ مُخَضّبُ ؟!
-ذاكَ الذي يهْوَى الرُّجوعَ،(مُواطِنٌ )
ليْسَ (اليهودِي) جوازُهُ.. وَمَثالِبُ !
– وهْيَ التي تُغرى ، (فَعَنْهُ غريبةٌ)
لكنْ ( يَهودِي) جَوازُها ؛ فَتُقَرَّبُ !
يا كُلَّ خلْقِ اللهِِ هذِي …..قضِيّتي
عدْلٌ أُهَجَّرُ مِنْ بِلادِي، ….أُغَرّبُ!
عَدْلٌ تُدَكُّ بُيوتُنا ………..وَقُلوبُِنا
وَنَبيتُ كُلٌّ في العَراءِ ……وَنُضْرَبُ !
وَتُصادَرُ الأرْضُ الّتي … عُرِفَتْ بِنا
وَنُزَجُّ في عَتْمِ السّجونِ ….نُعذَّبُ !
صُهْيونُ مَهْلاً !ما فَعَلْتَ بِشَعْبِنا؟
وَلِمَ الغريبُ لِأرضِنا…يُسْتَجْلَبُ ؟
-هذي …حكايَةُ ( لاجِئٍ) وَمُوَطَّنٍ
– كَمْ منطِقٍ فِيهِ الحقيقةُ ،تُقلَبُ !
عزيزة بشير
تعبر هذه القصيدة عن كثير من المعاني التي يمكن العثور عليها في المواثيق الحقوقية الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان،وتبدو كأنها إجابة عن التساؤلات التي تحاصرنا في عالم اليوم: إلى أين يذهب الفلسطيني المغترب/ اللاجئ..في زمن مفروش بالرحيل ؟!
وهل قدر الفلسطيني المعاصر أن يحمل وطنه معه في هجراته،وقدر الفلسطيني أيضا أن يحمل لوعة الإنتماء إلى التراب الذي أنبته،وقدر الفلسطيني كذلك أن يقايض رصاص الأعداء الغادر بحجارة الألم الغاضب،وقدر الفلسطيني أن يساند (بضم الياء وفتح النون) بالنحيب العربي ويمطر بوابل الخطب المتعاطفة وباللغة المنسوجة على نول البلاغة..؟!
ألا نخجل من تسطير الحروف وحسب،بينما يخجل الفلسطيني من الإستسلام فيحوّل مسيرة الحياة إلى نقمة لا يملك فيها سوى الرفض والحجارة..؟!
ختاما أقول : الأستاذة الفلسطينية المغتربة عزيزة بشير شاعرة مكسورة بين الغربة والإغتراب،والحضور والغياب،الذاكرة والحاضر،والنسيان والتمدد في عمق التاريخ الفلسطيني الملون بالمواجع،لكن نبرتها على الرغم من هذه الأثقال،ظلت تفاؤلية وتؤسس لغد مشرق مطرز بالنصر المبين.
صبرا جميلا يا شاعرتنا الفذة..فسينتصب الحقّ شامخا،يخرّ الباطل صريعا..وينبلج الصبح على فلسطين.
لست أحلم..لكنه الإيمان الأكثر دقة في لحظات التاريخ السوداء من حسابات الآفاقين..وعراة الضمير..

محمد المحسن
ناقد وكاتب صحفي تونسي

هوامش :
1-لمزيد التوسع في هذا الموضوع أنظر مقالنا “تموقعات النص الشعري..في أدب المقاومة”الصادر بصحيفة -رأي اليوم اللندنية-بتاريخ 22 أوت 2022.
*راجع الحوار في كتاب محمود درويش يتذكر في أوراقي،مؤسسة سلطان العويس،دبي 2019،ص 330.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى