كتاب وشعراء

الطوفان الأخير ( قنبلة الدموع الهائلة )….قصه قصيره بقلم محمد الصباغ

كانت تجربتي معها في حياتي الأولي غير منسية تعيش بعيشي وتحيا فيٌ وتنمو أوسع بحياتي ، تجربة لم يقربها النسيان مطلقاً ، بكر ناصجة مكتملة ، منذ ميلادها فيّ ، تجربة غائرة في ذاكرتي محفورة في تلافيف حياتي ، محفورة حفر في صخر الذكرى ، تأتيني بعض مشاهدها كما حدثت في وقتها ، تأتيني ساخنة ؛ كأنها في التو من حدوثها وفي اللحظة من سخونتها بنفس لذتها ونفس ألمها ونفس ألوانها ودرجات امتزاج الألون في لحظة البصر الأولى عليها ؛ تأتيني بنفس رائحتها ومشاعري وخوفي وارتباكي وقلة خبرتي بمرر الحياة ، تأتيني في رائحة معبقة كدخن بخور محروق ، لم يحرق إلا لها ومن أجلها. فبقى معبق الزمن برائحة بخور الزمن .
في وقتها كانت علاقتنا لحظات انعزال عن الدنيا ؛ في زمن خاص بنا ومغلق علينا لا يعرف ساعاته أو دقائق ثوانيه إلا نحن ؛ وكنا نعيش طقوس خاصة جداً ومبتكرة ؛ هى من كانت قد ابتدعتها وصارت متبعة في كل لقاء ، وكان الدلوف إليها وإلى المغارة السرية المشتركة التي تجمعنا ، يتغير في كل مرة نلتقي فيها ، وكأننا كنا نخفي أثر الأقدام ، حتى عن أنفسنا ، حتى لا يفاجئنا أي قاص أثر ؛ لنستمتع بلذة التجربة واكتشاف المسار ، من جديد ، في كل مرة نكرر فيها تكرار التجربة .
في مرة لقاء متعتنا الأخير ، عندما فرغنا ؛ كلانا من تخليص كل منا من توتر الحاجة إلى الإرتواء الملح ؛ وصار تجاورنا العاري المهدود ؛ هادئاً يرتشف اللذة باستطعام ، لا جائعاً إليها ؛ قالت ليّ باسمة ؛ كطبعها الهادئ حين تصفو :
” ماذا جرى على كوكب الأرض ؛ كل الرجال يبكون بسبب أو بلا سبب ؛ مئات الملايين من الرجال أصبحوا مرضى بداء ” البكاء المستمر ” في كل مكان تفشى الوباء ” البكائي” ملايين الرجال يبكون في نفس اللحظة ؛ مليارات من قطرات الدمع تهدر ، وتذهب إلى “بحيرة العدم ” وقد أصبح الدمع مهدراً رخيصاً حتى أصبح الدمع من رخصه مجففاً لا ندياً ؛ وأصبح فى كل مكان تقريباً ملقى ومطروح جانباً ؛ وهذا مكمن الخطر الحقيقي الجديد في حدوث الطوفان الأخير ؛ الذى سيغرق الأرض إلى الأبد ؛ فإن دموع الرجال تتجمع ولا تذوب مثل دموع النساء التى تعرف طريقها للبخر والتلاشي بمجرد حدوثها ، دوع الرجال تتجمع في قنبلة دومع هائلة ،وهي معلقة الآن في مكان ما تدور بحركة الأرض لحين تضرب الأرض ، فتغرق من على الأرض ” .
كانت رفيقتي ؛ هى هى دون أن تتعاط شيئاً أو تشرب شيئاً مُسكراً ؛ قد شرعت تحدثني عن وضع الرجل المقهور الذي سوف يخلق قهره وبكائه المتوالي ؛ قنبلة البكاء العملاقة بحجم كرة الكرة الأرضية ، ومن بعدها الطوفان الجديد . فقلت لها :
” أولى بك أن تحدثيني عن قهر الأنثى ، ما صنعته الأنثى للأنثى ، أو ما صنعه الذكر للأنثى ، أو ماتظن الأنثى أن رب الذكر قد صنعه للأنثى ” .
ثم واصلت في تهكم مكتوم ، وقلت لها وقد جاريتها متخابثاً ؛ دون أن أدري أني قد جاريتها في جديتها بعبثي الفج ؛ فقد كانت تحدثني عن شىء أستشعره فعلا وإن كنت لا أدركه ولا أستطيع وحدي أن أعبر عنه ؛ ولكني استطعت أن ألم به نوعاً واعبر عنه شيئاً بفضل إيحاءات كلماتها ومشاعرها ، وكان ظني بها أن حاستها في الإستشعار تصل إلى حد الإستبصار :
” هل الرجل الأجمل أم المرأة ؟؟ ” .
فقالت دون أن تنتبه أني أضيف مزيداً من اللهو والعبث على حديثنا :
” جسد الذكر دائماً هو الأجمل من جسد الأنثى ؛ وعواطف الأنثى وعقلها ؛ هى الأجمل فهى رحم كل الحياة ؛ لماذا لا تصدقني ؟! ؛ دموع الرجل تتجمع ويلوح في المدى تجمعها السيلي الذي ؛ الذي سوف يتضاعف ليصبح هو الطوفان الأخير ” المنهي للوجود المُدرك ” .
لم استطع مجاراة جدتها ، حين أصبحت جادة تماماً ومكتئبة تماما وقلقة جداً ؛ فصمت : كانت تمنحني مضاجعات مجانية ؛ بمحبة صادقة ؛ وصدق في الرغبة في امتاع نفسها وإمتاعي ؛ وقد أردت إرجاعها إلى خيمة لقائنا الآنس بكل المتع التي يستطيع إنسان أن يحضرها ويجهزها ويذوقها في الحياة المدركة ، فقلت لها :
” كلما دققت فيك وتداً ؛ تثبتت الأرض أكثر ؛ وتثبتت الأشياء فوقها وصارت أكثر قدرة لاحتمال طوفان الماء الذى تبشرين به ؛ متى ضَرْب وفي أى وقت جاء . وكأني كلما ضاجعتك ؛ ضاجعت كل نساء الأرض ؛ وصار بكاء النشوة منك ؛ طهارة لكل الخطايا ؛ وصار الدمع قرينة التطهر بدموع النشوة ؛ فلا خطيئة ولا حاجة لطوفان مُطهر ، بعد ذلك ، وربما يأتي الموت متى شاء ، وقد حلت النهاية متى آنت وحان حدوثها وكل هذا سيحدث في سلام تام ، يشمل الأرض وكل المخلوقات التي عليها ” .
في أعقاب جملتي الأخيرة التي قلتها ، لمجرد أن أقول شيئاً وأن أملأ فراغ الصمت ، الذي يعقب النشوة ، هى ردت عليّ بحوار عاصف كان فحواه أنها ليست سلعة للمتعة وأكملت بجملة واحدة قاسية في حقي ؛ قبل أن تغادرني إلى الأبد بعدها في سكون رتيب الخطو والإيقاع ، فكأنها سبتت على السرعة البطيئة جداً في حركة الإنسان :
” لم أكن أدرك أن بك مثل هذا القدر من الحقارة والتدني والسفالة المغلفة !! ” .
ثم واصلت كلاماً لم يكن ليّ وربما كان لنفسها فلم تكن تواجهني في تحدي وهى تتكلم ؛ مثلما فعلت ؛ عندما نطقت بجملة ” حقارتي ” :
– ” لماذا نتصور أننا نصنع الآخرين على هوانا وأنهم مُسخرين لخدمتنا ؛ وأن المرأة وسيلة سهلة للمتعة وأنها مجرد ” خُرم” وفخذين وأرداف ، وبطن يصعد ويهبط ، وأن متعة الذكر ؛ تنتهي لحظتها وعندها متعة الأنثى ؟! ولماذا نزيد هموم بعضنا ؛ ونحاسب بعض على الحرف القاتل الذي يرمى بلا حساب ؛ في حين أننا في حاجة للتشابك وللتأخي وللونسة الإنسانية ببعضنا أكثر وأكثر ؟؟ : أقبلني هكذا بدون أدنى محاولة لصوني أو لتعديلي أو تظبيطي أو الإعتراض على ما أفعل أو ما أتكلم به أو ما أطرح أو ما أخشاه أو ما أحلم به ؛ فأنا ولا شك أذكى منك وأجدر منك بالحياة ” .
قالت ثم صمتت ثم جمعت أشياءها وذهبت .
الآن بعد أن مرت كل هذه السنين ؛ على هذا اللقاء الأخير ؛ الذي مازلت أذكر تفاصيله ؛ والذي انتهت بعده علاقتنا بقطع تام واختفاء بلا أثر ؛ بعد كل هذه السنين المارقة ؛ أجدها هى هى حاضرة كثيراً ، وأجد كلامها متحققاً فيما يتعلق بالطوفان الأخير ؛ وأود من قلبي صادقاً أن أخبرها أن ما كان بيننا حباً خالصاً جامعاً ؛ كان مثلما كانت تظن ؛ إلا يوم الإفتراق ؛ فقد كان ما بيننا كان حباً صادقاً فعلاً . وعندما تباحثنا بشأن الخطر المحدق بالحياة ؛ من “طوفان دموع الرجال وقنبلة الدموع الهائلة التي تدور حول الأرض ، كأنه قمر الأرض ، الذي سيضرب الأرض ” ؛ لم أكن أتعامل معها وقتها بإعتبارها إمرأة ماجنة بائسة ، أو عاهرة سهلة ، تبيع الكلام مع بيع الجسد ؛ لكن وقتها كانت حُجتي ضعيفة حول تساوي دموع الرجل مع دموع المرأة في الأثر المُفعل للطوفان المنتظر ؛ فقد كنت أنا أظن أن إنحياز الأنثى للأنثى هو الواقع دائماً ؛ وكانت هى ترى أن دموع المرأة لا تَحرق إلا جلد وجهها فقط ؛ أما دموع الرجل فهي شىء آخر هى الموت وعصير الموت ودماء الموتى ، حول بحيرة دماء الموتى وحول بحيرة دموع الموتى .
كانت فذة الرؤية ؛ فقد أثبتت ليّ الأيام من بعدها، أنها كانت ترى ما لا أرى وأنها كانت عارفة بحقيقة دموعي ؛ أكثر مما كنت أعرف بشأنها وقتها ؛ وأكثر مما عرفت بشأنها بعد ذلك وطوال العمر الذى عشته أنا ؛ فقد أرتني أنها لا تحرق جلد وجهي فقط ؛ بل هى تذيب ملامحي وأن استمرار البكاء يجعل من مصيري الذوبان ؛ ويجعل من حقيقتي التلاشي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى