جمال غيطاس يكتب :تصريح رئيس الوزراء عن تجاوز الأزمة الاقتصادية هذيان اقتصادي مكتمل الأركان

في اجتماعه الخاص بمتابعة جهود خفض الأسعار المختلفة مع التجار والمصنّعين مساء أول أمس الثلاثاء، أكد السيد رئيس الوزراء أن «الأزمة الاقتصادية التي واجهتها الدولة المصرية على مدار الفترة الماضية تم تجاوزها»، مضيفًا: «مؤشرات أداء الاقتصاد المصري كلها جيدة، لكن أسعار السلع لا تتناسب أبدًا مع هذا التحسن الإيجابي في المؤشرات الاقتصادية، لذا يتعين أن نوفر الأسباب التي تدفع نحو مسار نزولي للأسعار».
وهذا التصريح يعد هذيانًا اقتصاديًا مكتمل الأركان، لا يليق بالدولة المصرية ومنصب رئيس الوزراء على الإطلاق، ويُعد نوعًا من الاستخفاف البالغ بعقول المواطنين، من أصغر طفل إلى أكثر الشيوخ تقدمًا في السن، ومن أقل المستويات تعليمًا إلى أعلى المستويات خبرةً ومهارةً. بل هو تصريح يسخر منه الطير في السماء والحيوانات في البرية، والأسماك في أعماق الماء… لماذا؟
ـ لأنه تصريح يعني أن ديون البلاد قد انخفضت إلى ما دون 25% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا لم يحدث؛ لأن الديون حتى هذه اللحظة تعادل ما يزيد على ثلاثة أرباع الناتج المحلي، وخدمة الديون فقط (الأقساط والفوائد والغرامات) تقترب من نصف الناتج المحلي الإجمالي.
ـ ولأنه تصريح يعني أن الميزان التجاري (قيمة الصادرات إلى قيمة الواردات) قد انقلب من حالة العجز الحاد المزمن، الناجم عن أن قيمة الواردات تعادل أكثر من ثلاثة أضعاف قيمة الصادرات، وأصبح في حالة الوفرة المريحة المستقرة التي تزيد فيها قيمة الصادرات على الواردات بعدة أضعاف. وهذا لم يحدث مطلقًا؛ لأن قيمة الواردات من سلعتين فقط هما القمح والزيوت تتجاوز قيمة الصادرات كاملةً.
ـ ولأنه تصريح يعني أن مستوى البطالة انخفض إلى ما دون 3%، وأن سوق العمل اتسعت وباتت تستوعب فائض الخريجين والعمال والحرفيين والإداريين وغيرهم من صنوف الوظائف المختلفة، وأنه حتى العمالة اليومية الزراعية وغير الزراعية باتت تجد لها فرص عمل مناسبة أغلب الوقت. وهذا لم يحدث على الإطلاق؛ لأن ملايين الخريجين ومن هم في سن العمل في التخصصات كافة يعانون البطالة منذ عدة سنوات، وقسم كبير منهم كان لديه فرص عمل وفقدها بسبب السوء البالغ في سياسات حكومة مدبولي ومن سبقه إلى المنصب في ظل السلطة الحالية، والتي جعلت معدل البطالة يتجاوز 10% منذ عدة سنوات.
ـ ولأنه تصريح يعني أن احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي، والناجمة عن التحسن في أداء القطاعات الإنتاجية وليس عن القروض والمنح والودائع الخاصة بدول أخرى، قد جاوزت احتياجات السوق، وأن الجنيه تماسك وقويت شوكته أمام العملات الأخرى، وعاد إلى مستوياته عند مجيء السلطة إلى سدة الحكم، أي بات الدولار يعادل أقل من سبعة جنيهات. وهذا لم يحدث؛ فقيمة الدولار لا تزال تلامس الخمسين جنيها، ومعظم احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي هي قروض وودائع دولارية مملوكة لدول أخرى.
ـ وهذا التصريح يعني أن الحكومة باتت قادرة على تثبيت أسعار الوقود والخدمات الأساسية والنزول بها إلى مستوياتها السابقة عند مجيء السلطة أو أعلى منها قليلًا، فأصبح لتر البنزين أقل من خمسة جنيهات، وأسعار الكهرباء والغاز والماء والاتصالات تراجعت إلى مستوياتها الطبيعية، وأن الحكومة كفت يدها عن الجباية من جيوب الناس بقسوة، وأن تكلفة استخراج شهادة الميلاد المميكنة قد عادت لتصبح خمسة جنيهات وليس أكثر من مائة جنيه حاليًا. وهذا لم يحدث على الإطلاق؛ فلا تزال أسعار الوقود تقفز، وأسعار الخدمات تلتهب وتتجاوز قدرات الغالبية العظمى من المواطنين، وأسعار الخدمات الحكومية مصابة بانفلات واضح على صعيد الكم والنوع.
ـ وهذا التصريح يعني أن كل أم مصرية أصبحت لا تعاني كل صباح وهي تحاول تدبير وجبة إفطار معقولة القيمة لأطفالها، وأن كل أب أصبح لا يعاني وهو يدبر ميزانية عائلته لتضمن الحد الأدنى الكريم المعقول في الملبس والعلاج والتعليم والانتقالات، وأن الحكومة منحت الآباء والأمهات فرصة الحصول على قدر معقول من الكرامة بعيدًا عن القهر والعجز أمام أبنائهم، وأن الأسرة المصرية البسيطة خُفف عنها لهيب سياط الأسعار وذل الحاجة. وهذا لم يحدث على الإطلاق؛ فسياط حكومة السيد رئيس الوزراء تنهال على ظهور المصريين بلا انقطاع على مدار اللحظة، سالبة منهم أقل القليل من العيش الكريم.
ـ وهذا التصريح يعني أن المواطن المصري بات بإمكانه الحصول على تعليم معقول الجودة بتكلفة معقولة، ورعاية صحية معقولة الكفاءة سهلة المنال بتكلفة في نطاق الاستطاعة. وهذا لم يحدث على الإطلاق؛ فحكومة السيد رئيس الوزراء أحالت التعليم إلى فقاعة، ويكفي فقط إصرارها وعنادها على استمرار وزير التعليم في منصبه بعد كل ما جرى منه. وحكومة السيد رئيس الوزراء جعلت الحصول على معظم أصناف الدواء أصعب من العثور على الخل الوفي والعنقاء، وإذا وُجد فبأسعار تناسب قاطني الساحل الشرقي.
باستطاعة أي مواطن أن يسرد عشرات النقاط الأخرى الدالة على أن حديث السيد رئيس الوزراء عن تجاوز الأزمة الاقتصادية هو محض هراء إداري، ومحض هذيان اقتصادي مكتمل الأركان، وخطاب بالغ السوء، يفترض في الأمة الغباء، ويدفع للاعتقاد بأن السيد رئيس الوزراء بات مقتنعًا أن لهيب سياساته الخاطئة جعله في موقف يمكنه من أن يقول أي شيء بأي طريقة في أي وقت؛ لأنه نجح فعليًا في الوصول بجموع المواطنين إلى حالة من الهذيان العقلي التي جمدت أبصارهم فأصبحوا لا يرون، وجمدت آذانهم فأصبحوا لا يسمعون، وجمدت عقولهم فأصبحوا لا يفقهون. ومن ثم باتوا مثل الماعز والحملان الصامتة وسط مزارع جافة قاحلة، لا تملك من أمرها شيئًا، حتى وهي تبحث عن نقطة ماء فيصدمها الجفاف، وعن عود عشب أخضر فيصدمها اللون الأصفر والخواء.
رفقًا بالناس يا رئيس الوزراء، فقد أتيت بسياسات منعت عنهم السلع معقولة السعر، والوظائف المعقولة العائد، والحياة المعقولة الكرامة. وليس لك أن تتحدث إليهم بما يفقدهم عقولهم وأبصارهم وأسماعهم وكرامتهم. ففي وقت ما سيكلفك هذا كل شيء، ويجعلك يومًا ما تبحث فيه عن شبر تأوي إليه فلا تجد، أو تحاول أن ترتوي فلا تجد سوى السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً.