حمزه الحسن يكتب :قتل المجتمع

المجتمع كائن حي يمر بمراحل عمرية، ويمرض ويموت، ويتعرض للقتل لكن: ” يتوارى الواقع لا عن منتقديه فحسب،
بل عن من يدافعون عنه”. * جان بودريار، فيلسوف وعالم إجتماع: إطروحة موت الواقع.
الواقع ليس كما نراه، هذا هو سطح الواقع، بل الواقع هو ما لا نراه، الواقع المحجوب خلف شعارات وطقوس واعلانات وخطابات وبرامج واحتفالات.
اذا كانت الولايات المتحدة الامريكية قد نجحت في شيء، فهو القضاء التام على المجتمعات التقليدية وليس النظم السياسية فحسب، وتحويلها الى مصحات نفسية ومستشفيات عقلية بأكثر الأساليب شراً، بحيث لا يحتاج المواطن فيها الى الحرية بقدر حاجته للنجاة والعلاج بعد تحوله الى طريدة هاربة .
تدمير المجتمع التقليدي وفي الوقت نفسه بناء مجتمعات “الحشود” الفرعية والحشود ولاء بلا تفكير، حشود الاحزاب والعصابات والميليشيات والكتل والحشود المنفلتة أو المتمردة على السلطة المركزية، بل وحتى السلطة المركزية صارت مفهوماً شكلياً بروتوكولياً،
لأن التفاوض الحقيقي والخطط والسياسات تتم بالحوار مع الجماعات الخاصة حسب قوة وتأثير أي جماعة.
يتداعى المجتمع ويتفسخ على مراحل وينهار اذا تم هدم الأسسس الإقتصادية التي يرتكز عليها وهو ما قامت به مدرسة صبيان شيكاغو Chicago Boys من خلال عملية نخر طويلة في الاتحاد السوفيتي وفنزويلا والارجنتين والبرازيل وشرق اسيا والعراق سنوات الحصار وايران وسوريا وكوريا الشمالية وكوبا وتشيلي وغيرها وكتاب “عقيدة الصدمة: صعود رأس مالية الكوارث” للمؤلفة الكندية ناعومي كلاين صدر سنة 2009 يشرح بالتفصيل كيف تستغل هذه المدرسة الكوارث ” سواء كانت انقلاباً، أم هجوماً إرهابيا، أم انهياراً للسوق، أم حرباً، أم تسونامي، أم إعصارا، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية”.
لم يعد هناك ما يعرف بـــ” النظام” السياسي الذي يوفر في الأقل الحد المعقول من الأمن والأمان والقانون للمجتمعات القديمة التقليدية،
بل حلّ مكانه مفهوم” أمن الجماعة” المسلحة،
وانهار مفهوم الدولة المركزية وحلّ مكانها دولة الأطراف المتصارعة أو المتحالفة،
وانتقل مركز صنع القرار من النظام الى الحواشي، بل لا شيء يسمى النظام اليوم إلا في الشكل،
وتسعى بعض الأطراف المحلية للابقاء على المظهر الشكلي للنظام الهزيل
لأنه يوفر لها الحصانة والمنعة وحرية التصرف.
حتى في العلاقات الدولية يجري التفاوض مع ” سلطة الأطراف”،
بعد إنهيار نظام” المركز” الذي تحول الى متفرج في بعض الدول كالعراق،
والى مجموعة نظم فرعية كما في اليمن، والى دويلات كما في ليبيا والى كيانات كما في سوريا،
وانتقل الأمر الى مستوى التمثيل الدبلوماسي والتعاون الاقتصادي والحربي
مع الجماعات الفرعية،
وحتى وجود قنصليات وممثلين للدول داخل هذه الجماعات،
وتحولت مفاهيم العدالة والحرية والقانون والسيادة الى أساطير قديمة،
وبالتوازي يجري تضخيم بعض تلك الجماعات او زعاماتها في وسائل الاعلام وفي الواقع،
وصار بعض قادة تلك الجماعات الفرعية بمنزلة رؤساء دول وأمراء بجيوش ومصانع وشركات ومصارف بعد ان كانوا حفاة الامس وحلفاء الخارج…والخ،
وانتهى بصورة حاسمة مفهوم” المجتمع” التقليدي،
وتشظى الى مجتمع الأحزاب ومجتمع السلطة والاجهزة ومجتمع المعارضين
والمهمشين والعاطلين والاتباع والارامل والمشردين والكازينوات والفنادق الكبرى،
وصار الاحتماء بالجماعة الفرعية، الحزب أو القبيلة أو المنظمة، هو ملاذ المواطن الأعزل وأي حديث عن نظام مستقبلي لا معنى له.
زال المفهوم القديم “للشعب” المنسجم والموحد في الأقل على القضايا الكبرى كالأرض والثروة والسيادة والاستقلال وحل مكانه مفهوم الحشود المتعادية والمتصارعة والمتناقضة حتى حول القضايا الرئيسية.
لم تعد الخارطة السياسية للدول كما كانت قبل احتلال العراق،
بل تحولت الخرائط الجديدة الى كيانات واوطان بالسر او الامر الواقع، وفي ظل هذه التحولات العاصفة تم اعادة رسم خرائط جديدة، ومع الوقت والقوة والسلاح والحلفاء،
ستتحول هذه الجماعات الفرعية الى دول إن لم تكن كذلك اليوم.
العودة اليوم الى صور” الأبيض والأسود” هي في الحقيقة نوع من الحنين الى مجتمع تقليدي منقرض وليس حنيناً الى سلطة،
بزوال أو موت عناصر المجتمع بحيث صارت رؤية شارع نظيف أو حديقة
او عائلة سعيدة أو مدفأة قديمة أو سفرة او صورة طلاب فرحين كما لو من عالم منقرض.
نحن نعيش اليوم في مجتمع قديم يتفسخ ويموت بطيئاً، وفي مجتمع جديد ولد متفسخاً، أي بين موت وتفسخ: كيف يكون حال إنسان في هذا المجتمع؟
المجتمع تفسخ تماماً لكنه لم يمت،
كما تقوضت مجتمعات أوروبا الشرقية الاشتراكية في صراع طويل.
الوجود الشكلي للمجتمع لاتمام مراسيم الانهيار الكلي، لكي تحل مكانه المجتمعات الفرعية المشوهة، وهو هدف الاستنزاف الطويل والبطيء والمنظم: السقوط المتدرج بدل الانهيار السريع،
لأن السريع يحافظ على مؤسسات ومدن وخرائط وهويات وقيم وتراث وأخلاق،
في حين التداعي الهادئ والثابت والمستمر والمتدرج يفسخ ويعفن ويخرب كل شيء، النفوس والقيم والمدن على نار هادئة ويلوح التداعي في الظاهر من صنع أشباح لكنها أكثر الأشباح وضوحاً.