دكتور محمد يحيى يكتب: العلم الضخم

في ثلاثينيات و أربعينيات القرن الماضي، كان شكل جديد من أشكال البحث العلمي ينشأ و يبدأ في التكون و الإعلان عن نفسه. فبعد أن كان المشهد التقليدي يظهر فيه عالم ينكب على أبحاثه فى معمله وحيدا او وسط فريق صغير، إذا بهذا الفريق يتحول إلى مجموعة ضخمة من العلماء و الفنيين قد يصل عددهم إلى آلاف الأشخاص، و بعد أن كان المشهد يتكون من معمل واحد تجرى به الأبحاث، إذا بالمشهد يتسع ليضم معامل كثيرة و أجهزة كثيرة بالغة التقدم و التعقيد و إذا بميزانية الأبحاث تقفز لتصل إلى مئات الملايين بل و المليارات من الدولارات. هذا التحول كان إيذانا بظهور ما يسمي بالعلم الكبير أو العلم الضخم و الذي شهد مشاريع بحثية عملاقة بميزانيات هائلة تضع إمكانيات غير مسبوقة أمام الباحثين لتحاول الوصول إلى نتائج مبهرة غير مسبوقة.
من أمثلة العلم الضخم مشروع دراسة الجينوم البشري والذى تكلف مليارات الدولارات و استغرق ثلاثة عشر عاما و شمل عدد كبير من الجامعات و مراكز الأبحاث و الذي أحدث نقلة حقيقية في العلوم البيولوجية و الصحية. من أمثلة العلم الضخم أيضا أبحاث الفضاء و التي قفزت بالإنسان إلى سطح القمر و نتج عنها بناء الأقمار الصناعية بما شكلته من ثورة في الإتصالات و الإعلام. و من الأمثلة كذلك إنشاء شبكة الإنترنت، هذه الشبكة العملاقة التي ربطت بين مختلف البلدان و الأماكن و التي دخلت كل بيت و أحدثت تغييرا شاملاً في طرق التواصل و الاتصالات و العمل. و كلما دقق المتأمل النظر، وجد أن كثيرا جدا من الانجازات العلمية العملاقة التي غيرت وجه العالم كانت نتاجاً لمشاريع العلم لضخم.
كما أن العديد من المؤسسات العلمية العملاقة المختصة بهذه المشاريع العلمية الضخمة قد تم إنشاؤها في الدول المتقدمة بميزانيات سنوية هائلة و بأعداد كبيرة من العلماء و الباحثين. فمختبر سيرن على سبيل المثال الواقع في اوروبا و الذي يعد أكبر مختبر لدراسة فيزياء الجسيمات، يحوي منشآت تكلفت مليارات عديدة من الدولارات و يضم آلاف من الباحثين و العاملين و يحظى بميزانية تتخطى المليار دولار سنويا. و هذا المختبر الى جانب دوره في دراسة فيزياء الجسيمات، كان المكان الذي انبثقت منه العديد من الاختراعات المهمة الأخرى مثل تطوير شاشات اللمس و تطوير شبكة الانترنت.
و على الرغم من أن البحث العلمي التقليدي بفريقه البحثي الصغير لا يزال مهما و مثمرا و موجودا بكثرة، إلا أن العلم الضخم له مجالاته البحثية التي لا تستغني عن إمكانياته الكبيرة و موارده الهائلة. و يبقى كلا نوعي البحث العلمي كجناحي طائر عملاق يرفرفان سويا و يحلقان معا في تناغم و تكامل نحو التقدم و النجاح و الإزدهار.
(بقلم دكتور محمد يحيى كاتب و مدرس الميكروبيولوجيا و المناعة كلية الصيدلة)