كتاب وشعراء

تلك الأشياء المراوغة …قصة قصيرة بقلم محمد الصباغ

كان الغيم كثيفاً جداً ويكاد يكون معتماً ؛ حتى أنني ظننت أنها ستمطر حالاً ولكنها راوغت ولم تمطر حينها ، وقد أدركت بعد عشر سنوات كاملة حين أمطرت ذات الغيمة بذات حملها الذي ظل محجوباً ببطنها في بطن السماء في ظاهرة وجودية غير مسبوقة في ” حمل السنوات العشر ” أن سحب الأمطار وغيمها تراوغ مثل سائر الموجودات والمخلوقات ، والأشياء الثائرة ، لعشر سنوات طويلة كاملة ، كنت أرقب السماء وأرقب غيمتي وسحابة الغيم الحبلى بالمطر وتراوغ ، أرقب لأعرف مصيرها ، حتى أني أكاد أن أكون قد انصرفت عن الدنيا أثناء مراقبتي لسحابتي !! . وعندما هطلت بغزارة فقد عرفتها على الفور ، فقد كانت تهطل دمعي وتهطل دمعي مختلطاً بدمي ، ووجدتني متجدد القدرة على البكاء ؛ بعد جفاف ، فعرفتني جلياً وعرفت سحابتي المراوغة الآتية بعد غياب وعرفت كنه كنهي ؛ المراوغ هو الآخر داخلي ، حين وجدته يطبط على كتفي حين وجدني أبكي من آساي ساعة أمطرت محتجبتي ووجدتني أشاطرها الإمطار والبكاء ، فبكيت دون خلاص !! .
بعد عشر سنوات من المراوغة أدركت أن ذات الغيمة المراوغة ؛ قد صدقت وأمطرت فجأة برغبتها هى ، ودون دعاء أو رجاء أو انتظار من أحد ؛ وووقتها فقد ابتسمت ليّ الغيمة الزرقاء في السماء بإبتسامة واضحة ؛ بعد المطر وبعد أن أفرغت حمولتها ؛ وقالت وهي تغمز بعينيها فعل اللعوب المقتدرة :
— “أنا ما فعلت إلا حباً وعشقاً فقط للمراوغة وللمغامرة ” .
حين تطلعت لغيمة السحب الممطرة ، بعد أن أمطرت ؛ كانت الدمعة الجديدة فيّ قريبة من باب الخروج من عيني بعد الدفقات الأولى التي لم أتحكم في خروجها الجبري ؛ حتى خلتها قد سقطت ؛ فقد أحسست بها ساخنة مالحة وكأني إرتشفتها ؛ ولكنها لم تسقط : لم تسقط داخلي ولم تسقط خارجي ؛ ولكنها ذابت فيّ ؛ فقد كانت تلك الدمعة هي الأخرى مراوغة ، كنت لحظتها أعتب على الدنيا ” المراوغة ” ولماذا لا نحصل على حاجتنا من حياتنا ، مادمنا نعمل ونكد ونجتهد ، شيء ما خطأ أهو في هندسة الكون وفكرة الوجود أم فينا نحن وعجزنا عن أن نتكيف مع الحياة كما هى ؟! .
كنت أريد أن أغير الكون وأفير الحياة وأصنع وجوداً جديداً به حياة جديدة وبشر غير ولكن ما حيرني هو ” ماذا أصنع في البشر الموجودين ؛ البشر الحاليين الذين أريد أن أمحوهم من الوجود ، أو أن أستبدلهم ؟! ، عجزت عن حتى تصور مخرج ليّ ومخرج للحياة ؛ فبكيت ، ولأول مرة في حياتي أمطر داخلي وينساب دمعي في مجاري داخلية ، تتخدي حياتي وكوني وروحي وجسدي !! .
كانت الدمعة “كلمة” على ملمس شفتي ؛ بعد أن تدحرجت من حلق فمي ولكني لم أنطقها ؛ رغم أني قد سمعتها ؛ سمعتها بأم أذني التي ما سمعت وهماً قط ؛ ولا عمرها قد حرفت نطقاً ؛ ولكن الكلمة التي سبحت داخل فمي وبين أسناني وذهبت حتى عقلي ؛ كانت هى أيضاً مراوغة ؛ كانت مراوغة شأن المعاني ذاتها ؛ التي ما أكاد أشعر بها حتى تتغير إلى عكس ما كنت قد بنيت بشأنها فهماً وإدراكاً وإحساساً لها ؛ ولكنها كانت كنه تلك الأشياء المراوغة التي جعلتني مستجيباً رغماً عني للمراوغة .
كانت تراوغني دائماً عيناي في عالمي المنغلق على ذاتي ؛ رغم أنهما عيناي أنا ؛ عندما كان يحدث حين أطبق جفناي على عيوني وأسدلهم حتى أني قد رأيت الألوان اللانهائية التي تصنعها عيناي عندما أطبقهما وقد إمتزجت الألوان وقد اختفت الألوان وقد تحورت الألوان وتحولت لؤلؤ متلألأ بغير ضوء ؛ فقد كانت الجواهر داخل عيوني هى الأخرى مراوغة : تلك كانت طبيعة الأشياء المراوغة والتي ما بقيت على حالها بداخلي وما بقيت في عالمي إلا بطبيعتها المراوغة ، وكان عليّ أن أستمتع بطبيعتها المراوغة والتي تعابثني جادة حين أهزل ، وتكون هازلة حين أكون جاداً أو ضعيفاً أو محتاجاً أو متألماً .
لقد إمتلأ عالمي بتلك الأشياء المراوغة ؛ تتبدل طبيعتها وخصائصها وثوابتها ليس إلا حباً في المراوغة : لقد رأيت الرصاصة المقذوفة عليّ ؛ آتية مستقيمة نحو رأسي ولم أخشاها ولكني رأيتها تسدير من نفسها وترجع للخلف ؛ لتصيب بعند من أطلقها ؛ فقد كانت هى الأخرى مراوغة .
وكان الحزن يكبر ويصغر ؛ يقبل ويدبر ؛ يأتي ليرجع في ذات اللحظة وقد أدركت أنه لا يفعل ذلك إلا بعد أن احترف ” المراوغة” وحينها أدركت متأخراً أن حجم حزننا أصغر من قدر إحساسنا به ؛ متى استطعنا بتمكن أن نمسك به بأيدينا .
وكان النسيان يتسع حتى صار “بحراً ” ممتداً أفقه الأول عند قدمي أو في مرمى البصر وأفقه الآخر يتنقل من مكان إلى مكان يراوغ البحر ويراوغ الكون ذاته ؛ فقد كان أول من أخبرني شيئاً من فنون المراوغة .
وكان القمر يسايرني في خطوي ويلازمني فوق رأسي ، حتى عندما كنت صغيراً كنت قد آمنت بأن القمر قمري وحدي ؛ يفعل معي مالا يفعله مع غيري وقد بقي هذا الظن يلازمني كبيراً ولكني أدركت بعد فوات الآوان أنه كان قمراً محترفاً للمراوغة ؛ يسايرني ويساير غيري ؛ ويساير حتى أعدائي ؛ فقد كان قمراً للجميع ؛ وكان هذا أول درس ليّ في “عالم المراوغة” .
وكانت تلك المرأة التي كانت بجانبي حالاً لا خيالا ؛ وكانت مستجيبة مجاملة ؛ فلما هممت بضمها ؛ وجدت سريري خالياً فارغاً ؛ ووجدت عقلي كذلك فارغاً منها ووجدت أذرعي خالية ووجدت حضني جافاً ووجدت صدري لم يحتويها هى ؛ تلك التي كانت تفيض نعومة وملمس ورائحة تملأ غرفتي وتملأ حياتي ؛ وقد ذهب ظني إلى أنها هى الأخرى أيضاً مراوغة أو كان لها نفس طبيعة أشيائي المراوغة .
وقد بدا ليّ بعد ذلك من سوء ظني بها : أنها هى من علمت كوني وأشيائي فنون المراوغة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى