حسام السيسي يكتب :كشك السجائر والسياسة بالتقسيط

كيف تحوّلت الانتخابات في مصر إلى مشهد عبثي خارج كل تعريف دستوري
في أي نظام ديمقراطي حقيقي، تُعدّ الانتخابات وسيلة لتداول السلطة، وتجديد التمثيل الشعبي، ومحاسبة الأداء.
أما في مصر، فهي تُقدَّم كطقس موسمي، أقرب إلى مهرجان شعبي بلا مضمون: لا برامج، لا منافسة، لا أحزاب ذات رؤية، بل لافتات مكرّرة ووجوه أعيد تدويرها.
في انتخابات مجلس الشيوخ مثلًا، لا تتعدد الخيارات، بل تتشابه حتى التماهي: “مستقبل وطن”، “حماة الوطن”، “الجبهة الوطنية”…
أسماء تتراصّ كعلب فارغة، لا يختلف بعضها عن بعض إلا في ترتيب الكلمات، أما الجوهر فهو واحد: الاصطفاف الكامل خلف السلطة، وترديد شعارات “الدعم المطلق” و”الولاء المستمر”.
حين تتأمل القوائم، تكتشف أن معظم المرشحين لا يعرفون شيئًا عن الدور الرقابي أو التشريعي، ولا عن المبادئ الدستورية التي يفترض أن يستندوا إليها.
السؤال الجوهري الغائب:
لماذا ننتخب؟
هل ننتخب لتجميل الواجهة، وتكرار الوجوه، وتثبيت المشهد؟
أم ننتخب لنراجع السياسات، ونقترح الحلول، وندافع عن مصالح الناس؟
في لقاء حزبي منذ سنوات، جمعتني جلسة مع أحد قيادات “مستقبل وطن” في بداياته، فسألته عن دور الحزب الرقابي. أجابني بثقة:
“إحنا شغلتنا نساعد الحكومة.”
أجبته فورًا، بلا مواربة:
“ده ما يبقاش حزب… ده كشك بيبيع سجاير!”
تجمّدت القاعة، وارتبك الحضور، وحاول أحد نواب رئيس الحزب تلطيف الموقف.
لكن ما قيل لا يُسحب. الحقيقة خرجت من القمقم:
أنت لا تناقش سياسيين، بل موظفين لدى السلطة، بلا مشروع، بلا روح، بلا خجل.
من التمثيل إلى الترويج
المرشّح السياسي في مصر اليوم، غالبًا، ليس ممثلًا للشعب، بل إعلانًا بشريًا لعلاقات لا تُعلن.
لا يملك موقفًا من الحريات، ولا من العدالة الاجتماعية، ولا من توزيع الموارد أو مسؤولية السلطة.
تحوّل النائب إلى مندوب خدمات، لا يجرؤ على المحاسبة، ولا يشارك في صناعة القوانين، بل يُستخدم لتزكية قرارات أُعدّت سلفًا.
وهكذا، يصبح التصويت فعلًا بلا أثر، وإجراءً بلا مضمون.
نظام بلا هوية… إلا البقاء
النظام السياسي المصري، في شكله الراهن، لا يشبه أي نظام آخر
على وجهه البسيطة
ليس ديمقراطيًا لأنه لا يضمن التنافس النزيه.
ولا سلطويًا صريحًا لأنه يُغلّف الاستبداد بمؤسسات صورية.
ولا دينيًا رغم خطابه المحافظ،
ولا حداثيًا رغم ادعائه “جمهورية جديدة”.
إنه نظام هجين، يحترف التناقض:
يريد برلمانًا، شرط ألا يعارض.
يريد أحزابًا، شرط ألا تختلف.
يريد مواطنًا، شرط أن يصفّق ويشكر.
السياسة لم تعد أداة حكم، بل أداة تجميل.
والمؤسسات لم تعد توازنًا بين السلطات، بل حوائط صدى.
والأحزاب؟ لم تعد تعبر عن الناس… بل تهمس بما يُطلب منها.
اعتقد والاعتقاد اعلى درجات اليقين أن
الناس في مصر لم تعُد مخدوعة.
الجميع يرى المسرحية، ويحفظها مشهدًا مشهدًا، لكن الصمت هو اللغة الوحيدة الممكنة.
الصمت ليس جهلًا، بل خوفٌ مبرَّر من ثمن مرتفع، وكلفة باهظة لا يتحملها الجميع.
ومع كل جولة انتخابية، يتكرر المشهد:
يفوز من يجب أن يفوز، ويُصفق من يُطلب منه التصفيق.
في النهاية حين تُدار الدولة بمنطق “الكشك”
الانتخابات، كما يجب أن تكون، هي حق دستوري ووسيلة مساءلة.
والأحزاب، كما يجب أن تُبنى، هي جسور بين المواطن والسلطة، لا فروع خدمة عملاء.
والمجالس النيابية، كما أرادها الدستور، هي عين الشعب على الحكم، لا عين الدولة على الناس.
لكن في مصر، تحوّلت السياسة إلى ديكور، وتحولت الأحزاب إلى “أكشاك” تبيع الوهم بالتقسيط، والمواطن إلى مشاهد في مسرحية مغلقة النهاية.
ورغم العبث، يبقى الأمل:
في من لا يزال يكتب، ويفكّر، ويحتفظ بالذاكرة…
لأن أكثر ما يخشاه العبث، هو أن يُرى على حقيقته.