رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :البكاء المقدس

عندما لا يكون المجتمع محصناً بمصدات وقائية وثقافة قانونية، وبلا طبقة سياسية وسلطة ثقافية رصينة وجادة ومسؤولة،
يستطيع أي محتال ونصاب محترف، أن يخترقه بسهولة لأن الجدران الواقية هشة سواء في السياسة أم في الثقافة وفي غيرهما.
يذكر عبد الرحمن منيف في ثلاثيته: ” أرض السواد”
إن والي بغداد سعيد باشا 1813 ـــ 1817 وقع في غرام غلام منحرف
هو حمادي العلوجي وهام به في حين كانت بغداد تغرق بالطوفان،
وكان الوالي لا شغل له غير الجلوس أمام ” حادي” كما كان يدلعه والتغزل به في حين صار حادي الآمر الناهي،
لكن داود باشا زحف من كركوك بأمر السلطان العثماني وتم القبض على سعيد الباشا في حضن أمه يبكي على “حادي” وقُطع رأسه من قبل سيد عليوي.
في زقاق الخطيئة ، الكلجية، أمام وزارة الدفاع، خلف المكتبة الوطنية اليوم،
كان داود اللمبجي حارس المبغى العام، هو الرمز الاخلاقي الشهير لحراسته الشهوات المنفلتة في المبغى وحراسة فطومة حبيبته،
فلكل شريحة رموزها،
وعندما مات خرجت نساء زقاق الخطيئة لوداع الشجاع الشهم ولكل شريحة معاييرها، وكان الشاعر عبود الكرخي جالسا في مقهى فسأل عن الجنازة وعندما عرف كتب قصيدة فضائحية ثأرية:
” مات اللمبجي”
لثأر قديم لأن الكرخي كان في النزل يوما مع القنصل التركي وناظم الغزالي،
عندما تحرش أحدهم بفطومة، فحمله داود على رأسه وطاف به عدة دورات ثم رماه، فسقط فوق الكرخي وكسرت يده،
وعندما رآى موكب التشييع المهيب كتب قصيدته الثأرية:
” مات اللمبجي داود وعلومه، كوموا اليوم د نعزي فطومة” الخ ما لا يذكر وغناها يوسف عمر.
لكن جنازة حارس الرغبات ومشعل الفوانيس في المساء وخلفه نساء المبغى العام يندبن ويصرخن ظلت حديث المجالس، بعد غياب حارس الاخلاق ورمزها.
عندما قتلت الجندرمة العثمانية الشقاوة عباس السبع، وسحلت جثته بحصانين متعاكسين، خرجت نساء بغداد يهتفن بحياة السبع،
لأنه كان يسلب التجار ويصرخن أمام الجثة:
” عباس السبع يا مطيّع التجار” وهذه مأثرته الوحيدة، أي يأخذ خاوة من التجار بالبلطجة.
في فترة الستينات توالى على حكم العراق عدد من الضباط الاجلاف في سلسلة انقلابات متوالية، شوهت تاريخ العراق وغالبا كانت مخابرات اجنبية خلفها،
كانت النخبة الادبية مشغولة بالريادة الشعرية وقصيدة النثر وجون بول سارتر والوجودية والبيان الشعري العراقي وماركس وتروتسكي وبعد كل إنقلاب تساق الى السجون من المقاهي والحانات،
من قبل ضباط هم في النهاية شلايتية ــــــــــــــ كلمة تركية تعني أبناء شوارع ــــــــــ بشعارات ضخمة وفرت المناخ لكوارث اليوم.
في شارع بشار في البصرة وفي نزل خاص، كانت نساء النُزل يحلفن بحياة المرحوم صباح وهو حارس النزل وإبن واحدة منهن والرمز، في الحرب العراقية الايرانية، حيث كان في العراق رمزاً واحداً هو صدام حسين،
والايديولوجيا لا تسمح بالتنافس لان الزمان محجوز والمكان محجوز، كما في شوارع العصابات، لذلك تمت تصفية رمز النزل في كمين مسلح.
صدام حسين نفسه خرج من الشوارع الخلفية، ووجد في الايديولوجيا غطاءً لشخصيته المشوهة ولم يكن في أي لحظة من حياته بعثياً أو سياسياً بل شخصية سيكوباتية نرجسية خفية مغطاة بأقنعة،
والنتيجة أوقع البلد في كارثة اليوم.
حتى اليوم تهيمن رموز حثالات في السياسة وفي المجتمع
على الحياة العامة، لكن هذه المرة بعناوين مختلفة وحتى في عالم الكتابة والثقافة،
وفي العمق لا فارق بين سعيد باشا وبين اللمبجي وبين صباح وبين
موجة الضباط الانقلابيين وبين بعض رموز اليوم.
المجتمع الهش سهل الاختراق سواء في السياسة أم في الثقافة وفي المجتمع وفي الأدب أيضاً: نصاب عراقي شهير لم يدخل مدرسة في حياته ولص هرب من العراق عام 1994 لسرقة متجر،إحتفل به الاتحاد العام للادباء في العراق قبل عامين ومرتين على أنه مؤرخ زمن المنفى وشاعر وروائي.
وفي هذه الفترة تنتشر ” رموز” كثيرة، جعلتنا نترحم على زمن اللمبجي وعباس السبع، هذه الفترة المظلمة والمهدد فيها العراق بالزوال أطلق عليها المدعو عبد الحميد الصائح بـــــــــــ” عصر النهضة” ونصب شخصاً ” كرمز لعصر النهضة” هو المدعو هادي ياسين وما أدراك ما هادي ياسين الذي يستحق كرمز للبذاءة والضحالة الاخلاقية وهو رمز فعلاً لمرحلة الانحطاط، في الاقل في الكتابة وصاحب الوصف السيئ الذي لا يمكن الهمس به للسيدة زينب بلغة ابن ماخور ،
وهؤلاء يتبادلون بينهم المدائح الرخيصة بلا ضمير ولا احترام للناس ولا للذات ولو اختلفت مع واحد منهم اختلفوا جميعا معك كما لو أنك سحقت كلباً في الظلام تندلع حفلة نباح كلاب القرى البعيدة أو اننا في مضيف قبيلة وفي زمن جرير وبني تميم:
” إذا غضبت عليك بنو تميمٍ حسبت الناس كلهم غضابا”
أين هو عصر النهضة لكي يكون هناك رمزها؟
لكن ماذا إذا كان الرمز مسلحاً على شعب أعزل؟ في مجتمع بلا مصدات ولا قانون ولا تقاليد سوية.
الف مسلح يستطيعون خلق سلطة فرعية موازية وخلق فوضى ،
بل خلق حياة مشوهة وبين وقت وآخر يأتي رئيس وزراء زرع مخابراتي أمريكي قديم ونصاب محترف ـــــــــــ من الكاظمي الى السوداني ــــــــــ ويخترق نخب السياسة والثقافة والمجتمع والمال والمصارف وبعد أن يسرق ما تبقى من ثروة مع الأهل والأقارب والأصدقاء وتفوح الروائح، يكتشف العراقيون الخديعة بعد فوات الأوان.
قبل أيام إنشغلت المنابر والصفحات لأن السيد غالب الشابندر بكى في لقاء متلفز وقال:
” العراق مقبل على أيام سوداء”،
مع أننا منذ عام 2003 وفي مئات المقالات نكرر هذه العبارة بالشرح والتفصيل كالنشيد الوطني وسط عواصف من الردح واللعن لكننا نلتزم بمبادئ لا بأشخاص ونحافظ على سلامة الخطوة والاتجاه والبوصلة ولا نلتفت، وهناك من طالبنا بـــــــــــ النظر الى الجانب الايجابي أو نصف الكأس الملآن وغيرها من الثنائيات التافهة، ونكرر اليوم: العراق ليس فقط في الطريق الى أيام سوداء بل قطع ثلاثة أرباع المسافة الى الهاوية والانهيار الأخير.
العراقي مغرم بالبكاء المقدس وليس بالحقيقة ، هل نصعد الى منبر ونردد العراق نحو الهاوية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى