تجليات الكوميديا السوداء في رواية “صهيل الذاكرة..وحديث الروح” للكاتب التونسي فوزي النالوتي….بقلم محمد المحسن

-الحياة معركة،والطريق إلى النجاح ليس مفروشًا بالورود،بل بالأشواك التي تجرح كل من يحاول السير بصدق..
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أن السرد الروائي في الكوميديا السوداء يتميز بمزج فريد بين الفكاهة والسخرية من ناحية،والمواضيع المظلمة والمأساوية من ناحية أخرى.هذا النوع الأدبي يعتمد على تناقض صارخ بين الأسلوب المرح والمضمون القاسي الذي يتناول عادةً البؤس الإجتماعي،العبثية،الانحطاط الأخلاقي،أو القسوة البشرية..
الكوميديا السوداء تدفع القارئ إلى الضحك من عبثية الحياة،مما يُعزز إدراكه لقسوة الواقع دون أن يغرق في اليأس.هذا النوع يتحدى التابوهات ويطرح أسئلة وجودية بطريقة غير مباشرة،مما يجعله أداة أدبية قوية للنقد الاجتماعي أو النفسي.
وهنا نشير إلى أن الكوميديا السوداء في الروايات هي أسلوب فني يستخدم الفكاهة والسخرية لمعالجة قضايا اجتماعية جدية أو مواقف مأساوية،وعادة ما تتضمن هذه الكوميديا استخدام السخرية والمبالغة وحتى التهكم للتعبير عن النقد الاجتماعي بشكل غير مباشر،مما يجعل القضايا المطروحة أكثر إثارة للتفكير والجدل.
في هذا السياق،أبدع الكاتب التونسي الشاب فوزي النالوتي في روايته البكر التي سترى النور قريبا( صهيل الذاكرة..وحديث الروح ) حيث وظف خياله السردي واجترح رؤية خاصة في التعاطي مع المكان والزمان،والواقع المعيش بكل قسوته وتداعياته.
شق الكاتب الواعد فوزي النالوتي لنفسه طريقا مختلفا في المعمار السردي،لا أعتقد أنه قد تأثر فيه بغيره أو شابهه،ففي الرواية قصة رئيسة توازيها قصص أخرى محايثة لها أو منفصلة عنها.
ولم يكتفِ الكاتب بالسرد تقنيةً واحدة لبناء روايته،وإنما استعان بالحوار والوصف.
وتجدر الإشارة إلى أن توظيف هاتين التقنيتين لم يكن على نحو تقليدي،وإنما وُظِّف الحوار والوصف بوصفهما تقنيتين أخريين للسرد كذلك،أعني أن الحوار لم يكن لمجرد تبادل أطراف الكلام والمواقف والتعبير عن المشاعر بشكل مباشر،كما أن الوصف لم يكن لمجرد تأثيث جو الرواية بمعطيات داخلية وخارجية عن الشخصيات والأماكن والأشياء.
يمكن اعتبار الحوار والوصف في الرواية امتدادا لمهمة السرد،فكثيرا ما تصادفنا مقاطع حوارية لبعض الشخصيات التي تتخلى عن أدوارها الفعلية وتتخذ موقع السارد الفعلي،حتى باتت جل الشخصيات مشاركة في سرد أحداث الرواية..
إن رواية “صهيل الذاكرة..وحديث الروح” تصنف نفسها على نحو غير محدد ومنفلت،فقد يقتنع القارئ بأنها رواية نفسية ثم يتراجع ليقرر أنها اجتماعية،وبقدر ما يتقدم في القراءة يتراجع مرات أخرى فيعتقد أنها رواية فلسفية،أو سياسية، أو طبيعية نسبة إلى التيار الطبيعي في الكتابة الروائية.وفي الحقيقة أنها رواية تنتمي إلى كل هذه الأصناف..لذلك فإن الرواية كوميدية بالفعل وبالقوة،لكن الكوميديا فيها سوداء لا تطمح إلى تحقيق لذة بقدر ما تتوق إلى نقد اجتماعي مؤلم ومحزن.
استطاع الكاتب فوزي النالوتي أنْ يصدح بمواقفه بصدد قضايا كثيرة مع التواري من وراء أسلوبه في السرد والتقنيات المذكورة آنفا،ناهيك عن دور الكوميديا السوداء،بحيث يظهر أنه قد تلاعب كثيرا بجزئيات خطابه الروائي..
وفي نسيجه المستند إلى الحدث الحكائي الذي تلعب به حالة الكوميديا السوداء بين الحقيقة والخيال وبين الحلم والواقع،تشدك تقاطعات ذات بناء فني ساخر لأنها تعتمد على كوميديا الموقف- الفكر
إن أسلوب فوزي النالوتي المتسم بالشفافية وبالبعد عن المباشرة السردية وبإغفاله متعمداً لبعدي الزمان والمكان ُتشعل ضوء الخيال في فكر القارئ فيحلل الأحداث نظراً لترابطها الزمني في وحدة المكان،إضافة إلى جرأته الموضوعية والأدبية في الطرح والمعالجة،لهذا يمكن القول إن روايته التي امتلكت خصوصية كوميديا الموقف تمتاز بمقدرة فائقة على التركيز على شخصية البطل النفسية داخلياً وخارجياً من دون أن يتعرض إلى وحدة الحالة الاجتماعية بعيداً عن الوصف،وهذا ما ساعد المبدع في تقديم نموذج ساخر تخللتها الحوارات الساخنة،لترمز إلى البعد المضيء في معالجة المضمون
ختاما أقول : تُعتبر رواية صهيل الذاكرة..وحديث الروح للكاتب فوزي النالوتي واحدة من أبرز الروايات التونسية التي قدمت نقدًا اجتماعيًا لاذعًا لواقعنا المتردي،بأسلوب يمزج بين السخرية والواقعية السحرية،حيث استخدم النالوتي لغة سهلة الفهم لكنها مليئة بالمعاني،مما يجعل الرواية تصل إلى شريحة واسعة من القرّاء.ولكن ما قيل فيها يحتاج إلى الكثير من الجرأة والوعي عند كتابته.
في النهاية،تبقى هذه الرواية واحدة من الروايات التي لا تفقد بريقها مع مرور الزمن،فهي مرآة تعكس واقعًا نحاول أحيانًا تجنبه،لكنها تجبرنا على مواجهته والتفكير في كيفية التعامل معه..
هي-أولا وأخيرا-رواية جديدة ستضاف لقائمة الروايات التونسية المتميزة،بالطبع أنصح بها الجميع..بإعتبارها كما أشرت رواية واقعية بامتياز،مؤلمة لمدى صراحة كل كلمة فيها..