د.محمود يونس يكتب :قصور الغدة (حين تكون الأعراض أصدق من التحاليل)

في دروب الطب، كثيرًا ما نتعثر بتلك اللحظات التي تُخبرنا فيها التحاليل أن كل شيء على ما يُرام، بينما يصرّ الجسد على رواية مختلفة. هذا هو حال كثير من مرضى الغدة الدرقية الذين، رغم انتظام نتائج تحليل TSH، يواصلون السير في دروب التعب، وغياب الحيوية.
يسألون أنفسهم:
“لماذا ما زلت أشعر بالبرد، والإرهاق، وتكسير مفاصلي، رغم أن الطبيب أخبرني أن التحاليل جيدة؟”
والإجابة، كما هي في كثير من قصص الطب، تختبئ خلف التفاصيل.
لغة التحاليل… ليست لغة الجسد دائمًا
تحليل TSH، ذاك الرقم الصغير الذي نحمله إلى الطبيب كل عدة أشهر، هو بلا شك حجر الأساس في تشخيص أمراض الغدة. لكنه لا يروي كل القصة.
هو صدى لصوت الغدة النخامية، لا صوت الغدة الدرقية ذاتها.
هو مؤشر على التوازن في الدم، لا في الخلايا حيث يحدث الفعل الحقيقي.
الجسد لا يتحدث بالأرقام وحدها. فهناك هرمونات أخرى، مثل الـ T3 الحر، الذي يُشعل الطاقة في كل خلية، والـ T4، الذي يحتاج إلى تحويل ليصبح فعّالاً، والـ rT3، ذاك المتسلل الصامت الذي يعطل المسار رغم حضوره الشكلي.
لماذا تستمر المعاناة؟
أحيانًا، يكون العلاج ناقصًا.
ليس في الجرعة، بل في الشكل. فمعظم المرضى يتلقون هرمون T4 فقط، ويُفترض بجسدهم أن يُكمل المهمة بتحويله إلى T3. لكن هذا التحويل لا يعمل دومًا كما ينبغي، خاصة حين يكون الجسد مثقلا بالضغوط النفسية، أو تنقصه بعض العناصر كالزنك والسيلينيوم.
وأحيانًا الهرمون يتحول، لكن إلى صورة غير نشطة: الـ rT3.
يبدو التحليل طبيعيًا، لكن الخلايا لا تجد الوقود اللازم لتوليد الطاقة اللازمة.
وفي حالات أخرى، لا يتم امتصاص الدواء كما ينبغي. فيتناول المريض ليفوثيروكسين بعد الإفطار أو مع مكملات الحديد والكالسيوم، أو يعاني من اضطرابات في المعدة، فتضيع الجرعة قبل أن تصل إلى وجهتها.
وقد تكون هناك اسباب أخرى غير مرئية مثل: الاكتئاب، فقر الدم، نقص الفيتامينات، أو حتى إرهاق نفسي مزمن
ما العمل إذن؟
لا بد للطبيب أن يُصغي إلى ما وراء الأرقام.
أن يرى الإنسان، لا الورقة.
أن يتتبع الأعراض حتى لو التحاليل سليمه.
ربما يحتاج المريض إلى تحليل إضافي: FT3، FT4، rT3.
ربما يجب تعديل الجرعة بحيث يكون TSH أقرب للحد الأدنى من الطبيعي.
وربما يكون الحل في مزيج من T4 وT3.
في النهاية…
الطب ليس معادلة حسابية، بل فن الإصغاء للجسد حين لا يتكلم بلغة المعمل.
وحين تقول لك التحاليل إنك بخير، لكن قلبك وعقلك وجسدك يصرخون بالعكس، فثق أن هناك إجابة… تحتاج فقط إلى من يبحث عنها معك.