أنت شتائي …..قصه قصيره بقلم محمد الصباغ

كانت تخاطبني عادة علي أني الشتاء الذي تحبه ؛ حيث حبات المطر ؛ هي هدايا من اللؤلؤ المنثور الذي يُرش علي الجميلات في حفلات الأحلام الباذخة الخيال ؛ فقد كنت لها كائن فريد ؛ جدت في الحياة حتي صادفته ؛ وكانت مصادفتي هي المصادفة السعيدة الأكيدة بالنسبة لها كما كانت تقول ليّ ؛ مدغدغة كل وجودي بكلامها الذي يغلفني بتخدير قوي بعد سماعي لها وحيث كنت أحلق في سماوت من الإنتشاء ؛ بما يجعلني شخصاً مسحوراً جباراً في شاعريته وفي أحلام وفي قوته .
وكأن بداخلها محطة طاقة جبارة خصصتها لشحني وإنارتي وتشغيل كل محركاتي وكل المحركات التي تصنع ليّ حياة مرفهة سعيدة ؛ كانت تغزوني بكلماتها : ” أنت شتاء دافء بلا ملل ؛ أنت شتائي المفضل ؛ شبه الدافئ شبه البارد ؛ دون صقيع ” .
لكنها هي أيضاً التي تحولت عني بعدما كنت الإله القادر المحب المحبوب ؛ فقد أصبحت تعاملني علي أني الشتاء الذي لم تعد تحبه ؛ دون أن تحب أي فصل آخر من الفصول ؛ ولقد استوعبت بلطف تحولها ؛ حين حدث تحولها ودون ان تفصح عن تحولها بخطابها المباشر إلي ؛ وقد أكتفيت منها في التعبير عن تحولها برسائلها الرمزية إليّ ؛ والتي أصبحت تتركها ليّ في تعبيراتها عن الأشياء ؛ حين تصف الأشياء ؛ وحين تخرج مشاعرها وأحاسيسها التلقائية التي تجعل من تفاصيل حياتها قلب وردة منثور الأوراق في لامبالاة متاح للإطلاع ؛ بأثر رؤيتي لهذا الورق المنثور في أرجاء كل أماكنا وكل أزماننا وكل فصولنا :
” يناير ( كانون الثاني) أيها الصديق ؛ الآن وبعد أن نفد مني كل شيء ؛ لم يبق لدي ما أقدمه لأي سائل ؛ غير أن أقتطع من نفسي ومن روحي ومن جسدي ؛ لكي لا أرد من يظن فيّ ؛ ذلك الكائن الذي كنته ” .
” يناير ( كانون الثاني) أيها الصديق : لا تأت ؛ هذه المرة عن جد أنا جادة لا تأت . لا تأت لقد أغلقت الباب دونك بكل المساكير ؛ وبكيت وحيدة خلف الباب الذي أحكمت إغلاقه دونك : بكيت بكيت ؛ وأدخل إن إستطعت عنوة وأكسر الباب لتري إمرأة وحيدة تبكي ؛ تبكي رجلا ؛ وتبكي عمراً وتبكي ذكريات ؛ تبكي حين تتمترس خلف اﻷبواب لتتمكن من أن تبكي . إدخل أنت في عمري عنوة وأكسر ما شئت من اﻷزمان وضاعف من اﻷحزان ؛ ضاعف ما استطعت من الأحزان ؛ إن استطعت أن تكسر باب العمر وتدخل ؛ فلا تلومني فسوف أغلفك لتهورك بعد ذلك في النسيان ؛ فلم تعد ليّ طاقة علي استطعام “مر المر ” .
إن استطعت أن تقهرني وتنفد إلي داخل داخلي ؛ لا تقترب من اﻷحزان المستفة داخل عمري : اتركها كما هي هي ؛ ولا تقترب من ما حفظته من أحلام ، لا تلمس ما أحفظه من أحلام : وليكن هذا عهد عليك إن قدرت أن تنفذ إلي عمري ؛ فإن شئت أن تخون وتتجبر أكثر وأكثر ؛ فلا تبالي فلن أبالي : أكسر أحلامي واقلع طرح قلبي ؛ ولكن في سرعة وقوة ؛ فلم يعد ليّ رغبة في الموت كما لم يعد ليّ رغبة في استمرار الحياة . لم يعد ليّ قدرة علي استطعام شيء ؛ لم تعد لدي رغبة في اﻹستطعام ، جفف حبات المطر في أثناء سقوطها من الغيم إلي شفتي ، جفف كل المطر ؛ اجعل قطرة المطر ” خواء ” خذ مطراً من دمعي وجففه : أصنعه كما يصنع الزبيب الجاف من العنب الرطب ، صَنّعه كما يصنع النبيذ من عناقيد العنب ، ولكن لا تترك ليّ حصاد ” العنب المر ” : احفظ دمعي الحلو لعمر آخر ، أو احفظه لعمر تال أو لزمن قادم ، ولكن لا تقل ليّ أنه فرض علي شرب حبات قطرات المطر المجفف . اتركني وحيدة إن شئت أو فجر سكينتي أو فجر اﻷرض من تحت قدمي : فكم وددت أن أدفن في شقوق اﻷرض العميقة ؛ كي ما يكون بعثي عويصاً ؛ كما كان موتي عويصاً ” .
هكذا كانت خاتمتنا ذات شتاء ؛ حين كان بعض الصقيع بإمكانه أن يقهر وجود الوردات ؛ فلا يبقي من وجود الوردات إلا ذكري أنها كانت موجودة في حياة ما .