كتاب وشعراء

أولئك أهلي……بقلم سليمان أحمد العوجي

لا أَسْتاءُ مِنَ الَّذينَ يَمْضونَ دونَ أنْ يُغْلِقوا خَلْفَهُم الباب،
فالأبوابُ أحيانًا تُصْدِرُ صَريرًا يُشْبِهُ العِتاب.
أُحِبُّ الَّذينَ يَعْرِفونَ أنَّ الخَلاصَ كِذبة،
لكنَّهُم يُرَبِّتونَ على كَتِفِ الحياة،
كَأنَّها كائِنٌ خائفٌ لا يُريدُ أن يُتْرَكَ وَحيدًا في العَتْمَة.
أُحِبُّ الهارِبينَ مِنَ التَّصْفيق،
الذينَ لا يَرفَعونَ أيدِيَهُم حينَ يَمُرُّ الوَطَنُ مُتَنَكِّرًا في بَزَّةٍ عَسْكَرِيّة.
أَعْشَقُ أُولئكَ الّذينَ يَتَهَرَّبونَ مِنْ نِداءِ الوَطَن،
لا لأنَّهُم خَوَنة،
بَلْ لأنَّهُم لا يَجِدونَ في المَوتِ نَشيدًا،
ولا في المَعْرَكةِ قَصيدةً تُلْقى في عَزاءِ الأُمّهات.
أَسْتَهْجِنُ المُتَأَخِّرينَ عَنِ المَواعيد،
ثُمَّ أَعْذُرُهُم،
عِندَما أَعْلَمُ أَنَّهُم تَأَخَّروا كَي لا يَسْبِقوا أَرْواحَهُم
الَّتي لا تَزالُ تُرَتِّبُ نَفْسَها.
لا أَزْعَلُ مِنَ المُنْسَحِبين،
لأني أَعْلَمُ أنَّهُم يُؤْمِنونَ
أَنَّ الغِيابَ أَكْثَرُ بَلاغَةً مِنَ الحُضورِ المُزَيَّف.
أُحِبُّ الَّذينَ يَخْتَبِئونَ في الصُّوَرِ الجَماعِيّة،
يَبْتَسِمونَ دونَ سَبَب،
لا لأنَّهُم سُعَداء،
بَلْ لأنَّ الحُزْنَ فيهِم مُؤَدَّب… لا يُحِبُّ الصُّراخ.
أُحِبُّ الأَشْرارَ الّذينَ يُضْرِمونَ النارَ في أَرْضِ جارٍ
تَعِبَ عَلَيها وَزَرَعَها بالفِتَن؛
فبَعْضُ الحَرائق… عَدل.
أُحِبُّ الكُسالى الّذينَ يَتَأَخَّرونَ عنِ الحَرْب،
كَأنَّهُم يَعْرِفونَ أَنَّ الحَماسَةَ وَجْهٌ آخَرُ لِلدَّم.
أُحِبُّ فاقِدي الذّاكرة،
الّذينَ لا يُطالِبونَ بِبَدَلٍ ضائع،
كَي لا يَكْتُبوا تَقْريرًا عن هَزائِمِهِم.
أُحِبُّ الكَذّابينَ الّذينَ ادَّعَوا نَفادَ ذَخيرَتِهِم
في مَعارِكِ اللاجَدوى.
أُحِبُّ النِّساءَ الغَبِيّاتِ
اللّاتي لا يَحْفَظْنَ أَسْماءَ السُّمِّ.
أُحِبُّ الخَوَنة،
الّذينَ يُسَلِّمونَ خَرائطَ اللّصوص لِشُرْطَةِ عَيْنَيْك.
أُحِبُّ المَجانينَ الّذينَ يَغْتَسِلونَ بالبَراكين
قَبْلَ أنْ تَدوسَ حَوافِرُ الشُّرودِ فِكْرَتَهُم،
ويَجْلِدونَ بَياضَ الوَرَق بِسَوْطِ القَصيدة.
أُحِبُّ القَتَلَةَ الّذينَ لا يُلَوِّحونَ بِخَناجِرِهِم،
بَلْ يَطْعَنونَكَ بِأَناقة،
يَخْتارونَ مَوْضِعَ الوَحْدةِ في صَدْرِكَ
كَمَا يَخْتارُ الرَّسّامُ نُقْطةَ الضَّوء في لَوْحةٍ مُظْلِمَة.
أُحِبُّ العاشِقَ الحَذِق،
الّذي يَعْرِفُ أَنَّ هَمْسَها صافِرَةُ إنْذار،
تَسْبِقُ غارَةً مُدَمِّرَة،
وَأَنَّ الكَلِماتِ النّاعِمَة
قَدْ تَحْمِلُ في حُروفِها رَمادَ مُدُنٍ سَقَطَتْ في اللَّيْل.
أُحِبُّهُ وهو يَنْزِلُ إلى مَلْجَإِ التَّجاهُل
كَجُنْديٍّ خَسِرَ إيمانَهُ بالحَرْب،
ومَضى بِجُمْجُمَتِهِ كَدِرْع.
أُحِبُّ الّذينَ يَشْتَرونَ ساعةً
ولا يُضْبِطونَها أَبَدًا،
لأنَّ الوَقْتَ لا يَعْني شَيْئًا
حينَ تَكونُ اللَّحَظاتُ فارِغَة
أو مُتَشابِهَة كَغُرَفِ الفَنادِقِ الرَّخِيصة.
أحبُّ..
الّذينَ لا يَنْتَحِرونَ حُبًّا بالحَياة،
بَلْ كَسَلاً،
لأنَّهُم جَرَّبوا المَوْتَ بِكُلِّ أَشْكالِهِ
ولَمْ يَجِدوهُ خَلاصًا كَما يُشاع.
الّذينَ يَتَحَدَّثونَ عنِ الغَد
كَما لَوْ أَنَّهُ إشاعَة،
أو لَعْنَةٌ تَنْتَظِرُ مَوْعِدَها.
الّذينَ يُرَبِّتونَ على أَكْتافِهِم بأنفُسِهِم،
ويَقِفونَ في الجَنازات
يُعَزُّونَ أَنْفُسَهُم مُقَدَّمًا.
الّذينَ لا يَثِقونَ بالضَّوْء،
لأنَّهُم رَأَوْهُ يَتآمَرُ معَ العَتْمَةِ ذاتَ يَوْم.
الّذينَ حينَ يُسْأَلونَ عن أَحْلامِهِم،
يَتَنَهَّدون،
ثُمَّ يُغَيِّرونَ المَوْضوع،
لأنَّهُم تَعِبوا مِن دَفْنِها كُلَّ صَباح.
أُحِبُّ المُهَلْوِسينَ
الّذينَ يَتَحَدَّثونَ إلى المَصابيحِ المُطْفَأَة،
والهَواتِفِ المُقْفَلَة،
والشُّرُفاتِ الفارِغَة…
أُولئكَ الّذينَ لَمْ يَتْعَبوا مِنَ الوُقوفِ في طَوابيرِ النَّحْو
لِيَحْصُلوا على “ضَمَّةٍ” تَرْفَعُ جَبِينَ أَوْطانِهِم،
ولا يَيْأَسونَ حَتّى ولو
لَمْ يَتَبَقَّ سِوى “كَسْرَةٍ” ظاهِرَةٍ في عُيونِ المُنْتَظِرين.
يُلْبَسونَ قَصائدَهُم بَزَّةَ الجُنود،
ويَنامونَ في خَنْادقِ القَواعِد.
أُولئكَ هُم أَهلي:
الضّاحِكونَ مِن هاوِيَة،
القادِمونَ مِن مَطاراتِ الرِّيح،
الصّامِتونَ لا مِن فَراغ،
السّائِرونَ على أَطْرافِ الحياة
خَشْيَةَ أَنْ يُوقِظوها.
أُحِبُّهُم جَميعًا…
يُشْبِهونَني،
حينَ كُنْتُ أَظُنُّ أنَّ الهَزيمَةَ نَوْعٌ مِنَ النَّجاة،
وأَنَّ النُّبَلاء لا يَأْتونَ دائمًا مِن جِهَةِ الانْتِصار.
– سليمان أحمد العوجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى