رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :الليل الاسباني الطويل

ذهب الروائي البريطاني الشهير جورج أورويل الى إسبانيا خلال الحرب
الأهلية الاسبانية عام 1937 بين أنصار الجمهورية اليساريين والشيوعيين،
وبين أنصار الملكية الفاشيست والنازيين بزعامة الجنرال الطاغية فرانكو.
أورويل مؤلف الرواية الشهيرة” عام 1984″ عن نظام شمولي تلصصي
يرصد أنفاس الناس ويراقب أحلامهم ونشرت عام 1949 لكنه وضع لها عنوانا استباقيا، ومؤلف” مزرعة الحيوانات”
كيف تحول نظم القمع الناس الى قطيع متشابه،
صُدم بما رأى وكان قد أصيب برصاصة في عنقه تركت أثراً في صوته حتى يومه الأخير عندما وجد نفسه في حرب سريالية تختلف تماما عن شعاراتها المعلنة:
الشيوعيون، أنصار موسكو، الذين قاتل في صفوفهم ووصل الى رتبة ملازم أول لم يكونوا في مواجهة الجبهة الفاشية فحسب، بل في معركة دموية مع الشيوعيين التروتسكيين في برشلونة.
المفارقة هو ما عشته ورأيته بنفسي خلال معارك الجبال: كان الحزب الشيوعي العراقي حليف النظام في “الجبهة الوطنية” يقاتل بفرق الانصار مع الجيش ضد الحركة الكردية و ضد الحزب الشيوعي ــ القيادة المركزية، الجناح المنشق، بقيادة إبراهيم علاوي المتحالف مع الأكراد. هنا وهناك صراع طبقي لكن لا تعرف ضد من ومع من؟
من ناحية الفظاعات والمذابح لا فرق بين يساري وفاشي ولأن أورويل ليس شخصية مؤدلجة وكان هدفه كما قال الدفاع عن الديمقراطية فحسب،
لكنه لم يجد ديمقراطيين لا هنا ولا هناك،
الذين يقاتلون هنا لا يختلفون من حيث العقلية عن الذين في الطرف المقابل، فقرر الهرب من الحرب وتسجيل شهادته في سيرة ذاتية روائية مذهلة وأمينة:
” تحية الى كتالونيا” وفي طبعة عربية بعنوان” الحنين الى كتالونيا”
ليست رواية عن الحرب فحسب لكنها توغل عميق في الذات البشرية عندما
تتعرى وتتكشف في لحظات حرجة وخاصة وتتداعى الحجب والاقنعة والاستار .
قال عنها المؤرخ البريطاني السير أنتوني بيفور:” تصوير فريد من الشائعات والغدر خلال الحرب الأهلية”.
أما مايكل شيلدن أستاذ وإختصاصي البيوغرافيا ــ السيرة، الأمريكي، فقال:
” هذه القصة في آن واحد عن الحرب صادمة في شفافيتها،
وممتعة في إسلوبها”
ومن النقاد من يضعها أهم من روايته الشهيرة 1984. غير شهادة أورويل لم يسمع أحد قصة مغايرة لتلك الحرب، لأن كل طرف كتب تاريخها لصالحه،
حتى الروائي الفرنسي أندريه مالرو الذي شارك في تلك الحرب وكتب روايته:
” الأمل” تحدث عن المصير البشري بلا بطولات، لذلك أحبها كل أطراف النزاع.
أرنست همنغواي الروائي الامريكي ذهب أبعد من أورويل لشخصيته المغامرة في تلك الحرب وكتب روايته ” لمن تقرع الأجراس” بحذر شديد دون تقديس الحرب، عندما وضعها في اطار قصة حب رائعة،
شارك في الحرب الاهلية الاسبانية عام 1937 الى جانب الجمهوريين عدد من الكتاب في العالم من بينهم الشاعر بابلو نيرودا عادوا جميعا بخيبة من تلك الحرب وبقناعات جديدة مختلفة.
سواء في الحرب أو في السلام لا يمشي الناس دائماً حسب شعارات وعقائد ومبادئ، ومن الغباء والسطحية تصوير الأمر كذلك،
لقد ارتكب الجيش الاحمر السوفيتي فظاعات وجرائم اغتصاب عند سقوط برلين تفوق ما ارتكبته النازية من جرائم وقد ظهر ذلك جليا بعد سنوات بالوثائق،
ولا يقل عنه الجيش الأمريكي فظاعة لدى دخول باريس خلال الحرب
العالمية الثانية وتم التستر عليه.
في رواية البرتو مورافيا ” إمرأتان” تهرب الأم لحماية إبنتها المراهقة
من النازيين والفاشيين الى المناطق المحررة، لكن تصدم الأم ــــ لعبت الدور في الفيلم: صوفيا لورين ــــ في أن الجيش المحرر هو من قام بالعمل الشنيع مع البنت وفي كنيسة مهجورة واختيار المكان يضاعف من عنف الجريمة.
الصورة النمطية التي نصنعها للناس ليست صحيحة والدوافع الشريرة توجد هنا وهناك وخلال القرن الماضي واليوم رأينا كم تحولت الشعارات الى غبار يُكنس في الشوارع،
وكم هي الكتب التي سحقت بالاحذية بعد إنهيار نظم وكم هي التماثيل التي تناولتها المعاول وكانت مقدسة قبل لحظات.
كم نحن بحاجة الى رؤية أورويل لكي نرى الاحداث بعيون مختلفة من خارج المرويات الشائعة وسرديات السلطة والاحزاب والجماعات ، بحاجة أعمق الى التحديق في ظاهرة الانسان لأن الظاهر منه هو الجزء اليسير وهو غاطس في الغابة والظلام العميق ولا ينتظر سوى انهيار النظام أو عتمة باردة وظلام دامس كي ينهار القناع.
خرجت اسبانيا من ليلها الطويل وأسست ديمقراطيتها بعد وفاة الجنرال فرانكو وأعادة النظر بتاريخها وأحدثت قطيعة معه كما تمنى وتوقع لها جورج أورويل مبكراً يوم كانت غارقة في الظلام والثأر ورائحة الموت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى