د. فيروزالولي تكتب:عجن اليمن.. من مشايخ الإسمنت إلى فقهاء الإسراف في دم الشعب

في اليمن، كل شيء قابل للعجن: الأرض، الدم، الشعارات، وحتى الذاكرة الجمعية. منذ 2014، ونحن نعيش في طنجرة ضغط تاريخية، يغلي فيها الوطن بين ملعقة “شرعية بلا ملح” وبهارات “الحوثي العضوي”، وتُقدَّم الوجبة للشعب تحت مسمى: استعادة الدولة أو مواجهة العدوان… حسب المطبخ الذي تطبخ فيه.
لكن العجيب هذه المرة أن بعض مشايخ بكيل، وبالذات من قبائل “أبو رأس”، دخلوا الطنجرة بدون أن تُستأذن القبيلة أو يُستفتى العقل. دخلوا كأنهم “إضافات” على وصفة لم يُشاركوا أصلاً في إعدادها، وكأن عليهم أن يدفعوا ثمن فاتورة قديمة كُتبت في مطبخ الرئيس السابق، وورثتها مطاعم متعددة الجنسيات: الإمارات، إيران، السعودية، بريطانيا… وكل من جرّب المندي اليمني وأعجبه طعمه.
كل شيء إلا القات.. والكرامة
نحن نعرف أن بعض الزعامات القبلية أصبحت مثل حبة القات: تستهلك بسرعة، تتغير حسب المزاج، وتُرمى عند الغروب. لا موقف ثابت، لا خط أحمر، فقط خطوط شحن للهاتف وشحن سياسي حسب الحاجة. لكن المفارقة أن كثيراً من الأحرار الذين أقصاهم النظام السابق، لأنهم لم يرقصوا على أنغام “أنا ومن بعدي الطوفان”، هم اليوم يُرمى بهم في ذات الطوفان، كأن لعنة الإنصاف يجب أن تُسحق معهم.
من مسرحية “الشرغدعية” إلى أوبرا “الحوثستقراطية”
دعونا نتحدث بصراحة: الشرعية أصبحت كائناً أسطورياً، تُنسب له قرارات لا أحد يعرف من يتخذها، وتُنسب له أخطاء لا أحد يعترف بها. تحوّلت إلى “شرغدعية” – خليط بين الشرعية والدُمى المتحركة. لا دستور، لا برلمان، لا حاكم مسؤول… فقط توقيعات تُنشر في تويتر وتُنسب لرئيس يعيش في فندق يُمنع فيه التدخين.
في الجهة الأخرى، لدينا نسخة مضادة: الحوثستقراطية – نظام يدّعي الحق الإلهي، ويُقنّن الحرب كأنها عبادة موسمية، يُعلنها في رمضان ويختمها في عاشوراء. كلا النظامين يتفقان في شيء واحد: الشعب لا دخل له إلا بدفع الفاتورة. أرواح، أموال، ذاكرة، وطن… كلها تُصادر باسم “الثورة” أو “الشرعية”، والحقيقة أن لا أحد ثوري، ولا أحد شرعي.
رجال ينؤون بأنفسهم… ويدفعون الثمن
المؤلم أن هناك رجالاً حقيقيين نأوا بأنفسهم عن الدم والدمار، لم يبيعوا ضميرهم، ولم يُضربوا بالطبل ولا دقّوا المزمار… ومع ذلك، يُصوّرون كخونة، ويُدفعون نحو معارك لا تخصهم. لم يكونوا ناهبي مال عام، ولا متسولين على أبواب السفارات، لكن يبدو أن في هذا البلد من لا يتحمل وجود الشرفاء، وكأن الشرف جريمة.
اليمن ليس عزبة… ولا “شركة مساهمة للقتل الجماعي”
في النهاية، اليمن ليس عزبة ورثها الحوثي، ولا شركة تديرها الشرعية بالريموت من العواصم. اليمن وطن، لكنهم جعلوه مشروعًا فاشلاً للتوسّع الجغرافي ونزيف الغباء.
سنصمت قليلًا… لا لأننا استسلمنا، بل لأننا تعبنا من شرح البديهيات. وسنضحك… لا لأن الأمر مُضحك، بل لأننا إن لم نضحك من هذا الجنون، سنبكي دماً.
—
هوامش توضيحية للمقال:
. “مشايخ الإسمنت”:
تعبير ساخر يلمح إلى شيوخ القبائل الذين ارتبطوا بعقود البناء، والنفوذ المالي والسياسي، بدلًا من دورهم التقليدي كحماة للقبيلة وصوتٍ للناس. الإسمنت هنا رمز للصلابة الزائفة والمصالح.
. “الشرغدعية”:
نحت لغوي ساخر يدمج بين “الشرعية” و”الدُمية”، للدلالة على سلطة لا قرار لها، تتحرك بتوجيهات خارجية، وتفتقر للسيادة أو المشروعية الشعبية.
. “الحوثستقراطية”:
تركيب لغوي يجمع بين “الحوثي” و”أوتوقراطية” أو “ثيوقراطية”، في وصف لنظام يقوم على مزج السلطة الدينية بالحكم الاستبدادي، ويستخدم الطقوس الدينية لتبرير العنف السياسي.