من كيان إلى غيث / بقلم المبدعة حسناء سعدون

من كيان إلى غيث:
عزيزي غيث، استنفذت كل جهدي في محاولة لأن أكتب لك رداّ يليق بمقامك عندي لما وصلتني رسالتك المحملة بالشوق كالذي أحمله لك
لكن أصدقك القول، إن الحروف تأبى أن تطاوعني، كأنما يصيبها الخرس أمام كل ما ذكرته عن أحوالك في الغربة التي أخذتك مني وحرمتني لقياك، تزاحمت الحروف داخلي حتى لم أعد أدري ما أقول وبأي كلام أرد..
لكن لتعلم، عزيزي، أني أحمل لك من الشوق ما يملأ بين سماء وسماء، وأرض وأرض، وما يعادل مياه البحار جميعها، وأن ما ألمّ بقلبي من غمٍ ما هو إلا نتاج شوقي الغزير إليك. هذا الشوق الذي لم أجد له دواء، ولا بوسع يد طبيب أن تداويه أو تشفيني منه.
أيها العزيز، إنك يومًا لم تغب عن تفكيري أو عن بالي. طيفك يستحوذ على كلّي، فكلما طلعت الشمس من مشرقها أو انحدرت إلى مغربها، أجدني غارقة في ذكراك، ساهمة في صورتك التي لم تفلح الأيام أن تنسينيها.
أنت هنا وإن كنت هناك، حاضر داخلي، في حركاتي وسكناتي ،في يقظاتي ومناماتي وكل حال من أحوالي. حروفك التي أقرأها بين الحين والحين أرى من خلالها وجهك لأشبه بالقمر ليلة البدر، نبرتك التي تشبه رنة سماوية، وبسمتك التي تضيء ظلامي الداخلي فتحيله نورا مشع
غيث عزيزي، إن كان لي طلب، فهو ألا تجزع من هذا البعد القاتل، أو هذه المسافة التي فرقتنا ولم ترحم قلبينا اللذين فتك بهما الحنين. وهدّهما الفراق، واستعن بالصبر والأمل،
فاللقاء آتٍ لا محالة، مهما طال البعاد، واتسعت المسافة التي تبدو كأنها من أطراف الأرض إلى أطرافها، ومن أقصاها إلى أقصاها.
آه، عزيزي، بحديثك عن هالة فأنت فتحت جرحًا لا أظن الأيام قادرة على شفائه، ولا الزمن بمقدوره أن يمحو أثره من داخلي. تلك الطفلة ذات الثلاث عشرة ربيعًا لم تكن سوى صبية في عمر اللعب والتعلم، وأشد ما تحتاجه هو حضن دافئ يحتويها وقطعة حلوى تٌقدّم لها كأي طفلة تسعد بالسكاكير في عمرها. لكنهم دفنوا طفولتها في فستان أبيض ولفّوا براءتها فيه، لتزف إلى رجل اللائق به أن يكون أبًا لها لا زوجًا تسلمه جسدها الصغير لتحمل في أحشائها طفلة وهي طفلة محتاجة للرعاية والعناية كقريناتها..
يا للوجع، وأنا أحكي لك ما أحكيه من معاناة تلك المسكينة، إن حالها ليوجعني حتى لأتمنى أن يكون كل ذلك حلمًا رأيته في منامي، أو أسطورة سمعتها من الجدات في صغري، لكن، ويا للأسى، فما أسرده لك هنا حقًا كأنك تراه رأي العين، وتسمعه سمع الأذن. هالة نفذت روحها إلى السماء وهي تضع مولودتها التي تركتها وحيدة ويتيمة بعدها
هالة حرمت الحياة بين رجل باعها مقابل متاع زائل ودنانير معدودة ، ورجل عاملها كامرأة ناضجة عليها بطاعته وخدمته لا كطفلة. يجب أن تعيش طفولتها، وأن تستمتع بما تستمتع به الأخريات ممن هم في سنها…