فيس وتويتر

حسام السيسي يكتب :حين يصنع المجتمع طاغيته

الطاغية لا يولد في القصر، بل في وجدان شعب اعتاد الخضوع.
المسألة هنا ليست حاكمًا بعينه أو دستورًا مكتوبًا على الورق، بل عقلًا جمعيًا تشكّل عبر قرون من التاريخ، حتى صار الاستبداد جزءًا من المألوف.
لو نزعت من سجل التاريخ العربي فترة الخلفاء الراشدين حتى نهاية عهد عثمان، لوجدت أن شرعية السيف هي التي حكمت، وأن الحديد والنار كانت أسبق من شرعية العقل. وحين حاولت بعض الدول في القرن الماضي أن تغرس فكرة النظام المدني وفصل السلطات، كان الشارع نفسه أول من ثار عليها. ليس دائمًا لأن الحاكم كان مستبدًا، بل لأن المزاج الجمعي لم يحتمل فكرة أن السلطة تُقيد بالقانون.
في العراق قبل انقلاب 1958، كان هناك برلمان وحياة سياسية ناشئة، لكن الملك سقط في مشهد دموي استقبله الناس بالهتاف، وكأنهم تحرروا، بينما هم في الحقيقة أغلقوا بأيديهم باب الدولة الحديثة. وفي سوريا، ومصر، وليبيا، والسودان، تكرر المشهد: انقلاب عسكري يطيح بنظام، ليأتي آخر يعيد إنتاج نفس المعادلة القديمة: رجل قوي، سلطة مركزية، وصوت واحد يعلو على الجميع.
هذه ليست مصادفات، بل نمط متجذر في البنية النفسية. المجتمعات التي تربّت على الطاعة القسرية لا ترى الحرية كحق، بل كمنحة من الحاكم، يمنحها أو يسحبها متى شاء. كما وصف إتيان دو لا بويتي في “العبودية المختارة”: القهر إذا طال، يصبح مألوفًا، والخوف من فقده يفوق الرغبة في التحرر.
المشكلة إذن ليست في شكل الحكم، بل في الوعي العميق الذي ينتج نفس الحاكم مهما تغيرت الأسماء. هذا ما سماه بورديو “العنف الرمزي”: القبول الضمني بالهيمنة، لا خوفًا من السوط فقط، بل لأن المخيلة لم تعد قادرة على تصور بديل.
لذلك، فإن أي تغيير حقيقي يبدأ من الداخل، من إصلاح الوجدان قبل تعديل الدستور. وكما قال كارل يونغ: “لن يصبح الخارج أفضل حتى نصحح الداخل”. فإذا كان الداخل مثقوبًا بالخوف ومثقلاً بعقدة المخلّص، فإنك حتى لو أسقطت النظام عشر مرات، ستقف في النهاية أمام صورته نفسها بوجه جديد.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى