حمزه الحسن يكتب : البحث عن عدو نبيل

ـــ غالبا ما يصدق الإنسان الكذب إذا كان يعيش في الأمل . * أريك ماريا ريمارك.
عبارة قالها الروائي أريك ماريا ريمارك مؤلف” ليلة لشبونة” الخالدة و” للحب وقت وللموت وقت” ” كل شيء هادئ في الجبهة الغربية”
عن تجربته في الحرب العالمية الأولى والثانية عرى فيها فظاعة الحرب عن تجربة بشكل لم يتكرر بلا خطابات ولا شعارات بل لغة مكثفة ونثر باهر متقشف عميق وسهل ينضح بالانسانية ويفضح حقيقة الغرب ولم يجد ناشرا لها عام 1927 ثم انتقل الى سويسرا ثم فرنسا واخيرا أمريكا خلال الفترة النازية، وعثر على رواية شبه مكتملة بعد وفاته “”” نشرتها زوجته الممثلة بوليت غودارد التي يعرفها جمهور أفلام تشارلي شابلن ويحبها من خلال قيامها بذلك الدور في فيلم “الأزمنة الحديثة”، وعرف الجمهور في تلك الحسناء النحيلة التي أدت دور الفقيرة البائسة ممثلة رائعة””.
حذر من صعود النازية مبكراً وأمر هتلر بحرقة رواياته في الميادين العامة في ألمانيا.
اليوم ما في معركة كبيرة تستحق أن تسقط فيها مضرجاً بكرامتك، مع عدو يمتلك مهابة الموت أمامه، عدو بملامح نبيل شاء تقاطع ظروف الحياة ان يكون خصماً. في حالات من قلب الخصومة تولد صداقة عميقة عندما يكون الخصم معبأ بالنبل والضوء والكرامة والشجاعة. كانت قواعد شرف للخصومة ومرجعية اخلاقية.
خصومة الصغار ورطة لا هيبة ولا شرف ولا فخر في الانتصار فيها ولا خجل من الهزيمة أمامها لانها لا تمتلك مهابة الخجل. في كل الاحوال تلويث وعدوان.
عدو تافه وضحل يحرمك حتى من الشعور بالاحتقار والغضب كالمرور من أمام مزبلة.
نحتاج إلى عدو كبير يمتلك رصانة الخصومة، وشجاعة العداوة ونبل المواجهة وكراهية الخيانة، ووضوح الضغينة. في زمن مثل هذا لم يعد كثيرون يحلمون بصداقة كبيرة بل بعدو كبير.
عدو من هذا الصنف الجميل النبيل قد يرتفع إلى درجة الصداقة لأن الشجاعة كالطبيعة لا تعرف الغدر. الشجاع لا يحتاج الى استعراض ومراوغة حتى مع عدو لان نبله حجاب وهو محكوم بالنظافة حتى في بحيرة وحل. مع عدو شجاع ونبيل تشعر حتى في الاشتباك بنوع من الطمأنينة الصافية لأن الشجاعة تلوح على وجهه كضوء نابع من وجه رضيع نائم. تشعر بغباء المبارزة وتفكر بالعناق.
الأعداء الصغار تبحث عنهم بكل أنواع المجاهر المخصصة للنجوم المنقرضة، فلا ترى غير التراب والحذاء وسراب نمل لا تفتح الشهية للكتابة ولا للخصومة ومع خصم شريف تضطر ان تتعلم وتطلع على علوم ومعارف وتنمو، لكن مع خصم هزيل قد تضطر لشراء سكين او مسدس او تبحث عن حمام تطهير وسماع الف قطعة موسيقية لكي تنسى ما قال ، وحسب شكسبير : هذا الصنف الحوار معه او حتى رؤيته تعد خطيئة.
مع الصنف الاول تنضج وتصبح اكثر رصانة وتتحول الحياة الى حديقة ومع الثاني تتضاءل وينخفض احترامك الذاتي وتتحول الحياة الى مكب نفايات.
بلا تجربة عنيفة مشرقة باهرة عميقة تهزك وتخضك وتقلب كيانك، وتعيد صياغتك من جديد، تبقى كما انت كحجرة طريق.
التجارب الكبيرة انقرضت ونحن في زمن يلوح فيه كل شيء ضئيل الحجم حتى تعجب كيف تصاغرت الأشياء لكن الامل في تجربة كبيرة قد يوقع في السراب والخطأ الفادح لان الأمل كالنبل مصدر كل انواع الشر. الأمل الساذج حفرة بلا قاع. ليست حفرة في قاع نظيف بل مكان يفوح بكل أنواع النتانة.
ليس هناك تجربة كبيرة ترتمي فيها كطائر صحراوي عطشان في بركة ماء.
صعود الجبال كان تجربة مثيرة وقصيدة وأغنية لكي لا تظل أبد الدهر بين الحفر لكن حتى مفهوم الحفرة تغير لان الامل الساذج نوع من العمى يصور السراب ماءً وتدفعك البراءة لتتخيل ان كل صغير وتافه هو بارقة أمل ومشروع صداقة لكنك تكتشف إن النفوس الميتة كالممالح لا تنبت فيها الزهور.
اليوم صار التسلق على أمكنة أخرى مفخرة، صارت البطولة في أن تركع،
والركوع ليس وضعية محددة بل قد يكون الركوع ركضاَ وضجيجا وتبجحاً.
حتى زمن العواصف الطبيعية اختفى،
لم تعد الطبيعة تغضب في زمن موحش بلا بشر ولا آلهة ولا قضايا كبرى.
كان الشاعر أنسي الحاج يحلم أن تسحقه عاصفة عاتية أو معركة كبرى أو قطار منطلق، أفضل من أن يُسحق تحت حشرات، كان يريد أن يسقط مضرجاً بحلم كبير وبريء،
كان يحلم بميتة تشبه الكرم وتكون بداية ولها دهشة النعمة.
حتى لو قررت الارتماء في بحر صاخب، سينبثق من البحر فجأة تمساح خرف فاقد شهية الأكل وينقذك ويحرمك من متعة الموت تقطيعاً.
ماذا تفعل إذن؟ لم يبق غير سقي الزهور وفتح النوافذ، وترك الستائر البيض محلقة في الهواء الرقيق لكي يمر منها الوقت أمام الحقول المشعة بالشمس والسر والجمال وتصغي لأغنية المغني ميغ جيغر:
” أنتظر أحداً ما، يأتي من مكان ما”،
آخر ما سمعه صموئيل بيكيت مؤلف في انتظار غودو في مأوى كبار السن مثل أي مشرد رغم جائزة نوبل، وحيداً،
بعد أن طلب من الفريق الطبي الخروج لكي يسمع الأغنية وحده وعندما عادوا وجدوه انتهى. أليس هو القائل:
” لا أحد يأتي ، لا أحد يذهب، هذا فظيع؟”