رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : من الرفيق إلى الشيخ

قال ميلان كونديرا خلال احدى زياراته الى بلده التشيك والى براغ والتي لا يلتقي بها بالنخبة الادبية التي حاربته مرتين، في الزمن الشيوعي وبعد التحولات، وعاش في عزلة في المنفى الفرنسي مع زوجته فيرا مقدمة برامج تشيكية التي رافقته من براغ الى باريس وعاشت معه كل المحن والعواصف وماتت بعده بعام وأوصى أن يدفن في باريس وليس في براغ، قال بعد التحولات العاصفة في بلده يوم كانت تشيكوسلوفكيا ثم انقسمت الى جيك وسلوفاكيا مؤلف كائن لا تحتمل خفته والخلود وحفلة التفاهة،:
” لقد حلت البلاهة التجارية وأعمال النصب والإحتيال محل البلاهة الآيديولوجية،وحلّ النصابون بدل الرفاق،
والتاريخ كما في عصر بلزاك يخرج مسرحية معقدة”.
لم ينته حكم السلالات في العراق، بل يتناسل مع كل نظام جديد.
البارونات في العراق لا ينتهون كطبقة حاكمة، بشكل مباشر أو غير مباشر.
البارون الاقطاعي العراقي اخطبوط، يدفع أحفاده الى نظام الحكم الجديد،
وعندما يسقط النظام،
يظهر الاقطاعي من جديد كشيخ قبيلة، يستبدل بدلة الافندي بالشماغ والعكال، وبدل المنهاج الحزبي يقرأ تاريخ المشيخة، واذا تقلص نفوذ الشيخ،
يظهر كصاحب عقارات ومالك أراضي. هذا الاخطبوط العاطل عن العمل ضمن طبقة فراغية غير منتجة تعيش على جهل الناس.
في الجمهورية الأولى بعد الملكية ومصادرة الأراضي والاصلاح الزراعي،
رقدوا في العشب كالأفاعى، وظهروا مع الانقلابيين على الزعيم عام 63،
وصاروا ضباطاً ووزراء ومدراء ورؤوساء أجهزة أمنية وفي كل الادارات العليا.
وبعد انقلاب عارف الأول عليهم ، عادوا للكمون مرة أخرى،
وظهروا مع النظام الدكتاتوري السابق عام 1968، وتوغلوا من جديد في الدولة والسلطة وصاروا من كبار الضباط ورؤساء مؤسسات أمنية وحزبية وادارية.
أما ضحايا الاقطاع والأحزاب والحزام الهامشي المحيط ببغداد من صرايف “خلف السدة” سدة ناظم باشا، الذين نزحوا من الجنوب من عشرينات القرن الماضي وليس زمن الزعيم وقبل ولادته، من جورهم وظلمهم،
وأسسوا زمن الزعيم قاسم مدنا في الفضيلية، ومعامل الطابوق والدواسر،والثورة سابقاً بعد ان كانت الصرائف تطفو فوق مياه مجاري الصرف الصحي لبغداد،
فظلوا على هامش السلطة والمدينة، إلا كخدم حدائق ومطاعم وباعة حليب
وأشباح أجساد مساطر للبيع تحت جدارية فائق حسن في ساحة الطيران في انتظار المقاول لكي يختار الأقوى في نظام عبودية علني،
وكانوا متهمين بسبب السحنة واللكنة والزي والموقع وطريقة العيش والطقوس ــــــــــــ كل ما هو حق طبيعي وليس مكتسبا يتحول في عقل عنصري الى عورة ـــــــــــــ وتعتبر المصاهرة معهم بل حتى الصداقةمن قبل ما يسمى أبناء الأحياء الراقية، عيباً وعاراً.
هذا العزل أو الفصل الطبقي أو الابارتايد الاجتماعي هو عزل سياسي،
فكل تشوهات العقل السياسي تظهر في هذه التراتبية القذرة المستمرة،
ويظهر أوضح في نظام الضواحي. التعامل الجنسي في علاقات شرعية قانونية لابناء وبنات الضواحي والفقراء والاحياء الفقيرة يعتبر تجاوزا على قداسة التراتبية تجسدها هذه الصرخة العائلية” يا عيب العيب، تريد تتزوج من الدواسر وتفضحنا؟” لكنه مبرر في علاقات عابرة بسبب نظرة دونية محقرة لهذه الطبقة الفقيرة.
اليوم وبعد سقوط الدكتاتورية ــــــــــــ مع ان الدكتاتورية ليست مؤسسة فحسب بل عقلية ولا تسقط بزوال الدكتاتور ـــــــــ عاد أبناء البارونات من مقرات الحزب الى مضارب القبيلة، وكالعادة دخلوا في النظام السياسي ليسوا كرفاق، بل كأمراء وشيوخ،وما زلنا نحن على هامش المدن والسلطة والحرية أبناء الغيوم والخايبات وقد يتكرم علينا طائفي منحرف بكل انواع الانحراف لوصفنا بغجر كابول بل عودة الى الجاهلية والمعارة بالامهات : انت مو أمك فلانة؟ أقسم بكل المبادئ سمعتها من عضو لجنة مركزية لحزب ثوري طبقي اشتراكي في شجار مع آخر ولم أصدق ما سمعت وهذا في السويد وليس في الغراف أو الشامية وكنت أعرف أم المسكين بائعة خبز ربت أطفالاً يتامى بشرف وعزة نفس في زمن تدهورت فيه بعض النفوس وانحرفت. يبدو ان اللغة السياسية لصق ولطش ولم تتجذر في النسيج العقلي لذلك تنزاح عند الغضب لتفسح المجال للغة الاصلية الزقاقية بعد سقوط الطلاء والأقنعة.
تذكرت قول جيفارا:
” كلهم كاذبون يا رفيقي ؛ لا المطرب العاطفي عاشق و لا المذيع المتحمس يحب وطنه ، و لا رجل الدين يعرف الله “.
صار السياسي اليوم لكي يثبت “أصالة” شكلية، يذهب لزيارة الشيخ،
مع أن الشيخ نفسه بمعايير حقيقية يحتاج لاثبات اصالته،
لأن الأصالة خلق وأبداع، وليست وراثة لأن هذه أهم صفات الدولة الديمقراطية، دولة المواطنة والمساواة والحقوق والواجبات،
بلا عكازات من خارج الانسان.
الأصالة المستعارة المتوارثة هي باقة زهور على رقبة خنزير، وعلى الانسان أن يبدع اصالته بلا حسب ولا نسب ولا جاه ولا مال ولا حزب ولا قبيلة.
هم دائماً أمراء ورفاق، ونحن دائما جنود أو عمال خدمات في دورة مكررة دائرية لان العقل السياسي الرث نفسه يعيد انتاج المشكلات نفسها ويدور في المكان نفسه كثيران النواعير ولا تتغير سوى القشور والسطوح والعناوين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى