محمد المحسن يكتب :على هامش الذكرى الحادية عشرة لرحيل الشاعر الفلسطيني سميح القاسم ” قيثارة فلسطين” و” شاعر العروبة”
"يموت منا الطفل..والشيخ ولا يستسلم"

إلى الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم رحيله الشامخ
“الشعراء كالأوطان.. لا يموتون..”
“العبرات كبيرة وحارة تنحدر على خدودنا النحاسية..العبرات كبيرة وحارة تنحدر إلى قلوبنا”( ناظم حكمت)
“أبدا لن يموت شيء مني..وسأبقى ممجدا على الأرض ما ظلّ يتنفّس فيها شاعر واحد”( الكسندر بوشكين)
“أنا لا أحبّك يا موتُ،لكنّني لا أخافُكْ وأدرك أن سريركَ جسمي،ورُوحي لِحافُكْ،وأدرك أنّي تضيق عليّ ضفافُكْ”.الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم.
لأن هناك الشعراء،ولأنهم في حياتنا،ولأنهم يبقون حتى حين يغادرون عالمنا،يمكن أن نطمئن.ليس شعارا هذا،ولا تفاؤلا ساذجا،فإن الشعراء قدامى وحديثين،استطاعوا أن يمنحوني شعورا استثنائيا في كثير من الأوقات التي كان يمكن أن يسودها اليأس والظلام،شعور هو مزيج من البهجة،والهدوء،واللامبالاة.
اقتادتك فلسطين من يد روحك إلى فردوس الطمأنينة،بل ربما إلى النقيض.
ولكن..الشعراء العظام يولدون مصادفة في الزّمن الخطإ،ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة دم،ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر..
إني أتحدث هنا،عن سميح القاسم أحد أهم وأشهر الشعراء العرب والفلسطينيين المعاصرين،الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والمقاومة من داخل أراضي العام 48،رئيس التحرير الفخري لصحيفة كل العرب،عضو سابق في الحزب الشيوعي.
يُعد أحد أهم شعراء فلسطين والعالم العربي في العصر الحديث،حيث شكل مع محمود درويش وتوفيق زياد “ثالوث الشعر الفلسطيني المقاوم” . تميزت تجربته الشعرية بالغنى والتنوع،حيث جمع بين الأصالة والحداثة،والالتزام السياسي والعمق الإنساني،والغضب الثوري والرقة الوجدانية.
تميز شعر القاسم بغنى في التناص مع التراث الديني الإسلامي والمسيحي واليهودي،وكذلك مع الأساطير الشرقية والغربية.في قصيدة “القصيدة الناقصة” يستحضر أسطورة “سدوم” ليقارن بين دمارها الأسطوري ودمار فلسطين تحت الاحتلال، لكنه يقدم مفارقة عميقة: أهل سدوم دنسوا الأرض فاستحقوا العذاب، بينما فلسطين بريئة وتتعرض للاحتلال .
كما نجده في قصيدة أخرى يدمج بين الرموز المسيحية والإسلامية: “أرضنا من عسل-يحكى- بها الأنهار -يحكى -من حليب/ أنجب يحكى-كبار الأنبياء/ وعشقناها/ ولكنّا انتهينا في هوانا أشقياء/ وحملنا كل آلام الصليب” .
هذا التناص الديني لم يكن لغايات فنية فقط،بل كان وسيلة لتأكيد الهوية العربية والإسلامية لفلسطين في مواجهة الرواية الصهيونية.
هذا،واتسم شعره بحضور قوي للعناصر الدرامية من حوار وتشخيص وتصاعد درامي،كما في قصيدة “أطفال رفح” التي تحكي قصة الطفل “علاء الدين” الذي يقاوم الاحتلال: “أنا ألقيتُ على سيارة الجيش الحجارة/ أنا وزّعت المناشير،/ وأعطيتُ الإشارة”.هذه القصيدة تحولت إلى مشهد درامي كامل أبطاله أطفال غزة الذين “بلغ الحزن بهم سن الرجولة”
ارتبط اسم سميح القاسم بشعر المقاومة حيث كان “شاعر العروبة بلا منازع” كما وصفه بعض النقاد،إذ عبر في قصائده عن معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال،كما في قصيدة “أطفال رفح” التي تصور وحشية الاحتلال: “للذي تقصف طياراته حلم الطفولة/ للذي يكسر أقواس قزح” . لكن مقاومته لم تكن عنصرية،بل إنسانية،كما في قوله: “في الكون متسع لكل الناس،هل في الناس متسع لبعض الكون؟”
استخدم القاسم السخرية كسلاح ضد الظلم والاحتلال، كما في قصيدة “البيان قبل الأخير” حيث يسخر من ادعاءات المحتل: “لاَ. لاَ تَعُدُّوا الْعَشَرَهْ../ يَوْمُ الْحِسَابِ فَاتَكُمْ” . لكن سخرية القاسم كانت ممزوجة بالمرارة التراجيدية، كما وصفه النقاد بأنه “شاعر الغضب النبوئي” .
لم يقتصر شعر القاسم على القضية الفلسطينية، بل امتد إلى قضايا الشعوب المظلومة في العالم. كتب عن باتريس لومومبا زعيم الكونغو: “يا هتافا، لوقعه زُلزِلَ الكونغو الحزين المعذبُ المستعبَد” . كما عبر عن تضامنه مع كل المظلومين في قصيدة شهيرة: “حرامٌ عليَّ الطعامُ../ إذا جاعَ جاري/ وإن أرهقَ العُريُ في الشَّرقِ نفساً/ حرامٌ عليَّ دثاري”
نال شعر سميح القاسم اهتماماً نقدياً واسعاً، حيث رأت الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي أنه “الشاعر الوحيد الذي تظهر في أعماله ملامح ما بعد الحداثة في الشعر العربي” . بينما وصفه الكاتب سهيل كيوان بـ”هوميروس من الصحراء” ، واعتبرته الدكتورة رقية زيدان “قيثارة فلسطين” و”متنبي فلسطين” .
من جهة أخرى،تناول الدكتور نبيل طنوس في كتابه “سميح القاسم شاعر الغضب النبوئي” أبعاد شعره من خلال تقسيم مضامينه إلى ثلاث دوائر: دائرة الشاعر والطبيعة، دائرة الشاعر والوطن، ودائرة الشاعر والعالم.كما حللت دراسة “البنية الدرامية في شعر سميح القاسم” كيف حول قصائده إلى مشاهد درامية مفعمة بالحركة والصوت واللون.
على سبيل الخاتمة :
على تماس من نبض المناضل والشهيد الفلسطيني وقضية الوطن المحتل،الوطن المسلوب بالقوة، وقف الشاعر الراحل سميح القاسم بشموخ،ليرصد بشعريته الوهاجة وجع فلسطين النازف،وهو الذي كان يردد دائما أن قصيدة المقاومة ستستمر.قالها في حفل تأبين درويش في عمان نوفمبر/ تشرين الثاني 2008، وقالها في أكثر من مناسبة،وهو الذي كان دائما ضد ثقافة الاستسلام،وضد مقولة إن شعر المقاومة انتهى،وإن الزمن الحالي له شعره الجديد.
ستون عاماً،في مسيرة القاسم الشعرية،ورمزية النضال،وهاجس فلسطين الأرض والحلم والذاكرة والتراب،وملاعب الصبا،والأرض العربية،ذات النكهة المشرقية،التي لا تقبل المساومة ولا التفريط،هي أرض المصري والشامي والخليجي والمغاربي،وهي روح السماوات وموطن المحبة والتسامح والسلام،كلها عناوين برزت في قصائد القاسم،الذي وهب نفسه للقضية،شعرا وقولا وفكرا،هي مشهد حاضر في خاصرة الوطن العربي، ولا خوف عليها أبدا،مع تلك العزيمة التي تربط الفلسطيني بأرضه،سواء كان شيخا طاعنا في السن،أم كان طفلا،أم عجوزا تحمل مفتاح بيتها،وتحدب عليه وترفعه بقوة على مشارف البحر،وسماء البرتقال،وأرض التين والزيتون، وطالما هي شامخة كذلك في أرواح وأفئدة العرب جميعا.
بهذه القوة،وهذه الروح التي طبعت أشعاره،رفع القاسم روح الحرية عاليا،وهي روح ظلت تحافظ على وتيرتها الأعلى في رشاقة القصيدة،وبساطة الفكرة وحلاوة اللغة التي ترفض الخوف وتحارب الحزن والريبة والخنوع.
ترك القاسم أكثر من 60 عملاً أدبياً ،وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات،مما وسع من دائرة تأثيره لتتجاوز الحدود الفلسطينية والعربية. شعره كان مرآة لواقع الفلسطينيين تحت الاحتلال،لكنه في الوقت نفسه كان نافذة على آمالهم وأحلامهم. كما عبر عن ذلك في قصيدة “طائر الرعد”: “و يكون أن يأتي/ يأتي مع الشمس/ وجه تشَّوه في غبار مناهج الدرس/ (…) شيء يسمّى في الأغاني/ طائر الرعد” .
بين الغضب الثوري والرقة الإنسانية، بين الألم الفلسطيني والأمل الإنساني، بين الأصالة والحداثة، استطاع سميح القاسم أن يخلق عالماً شعرياً فريداً يجسد تراجيديا الشعب الفلسطيني دون أن يفقد إيمانه بالحياة والجمال.هذا التناقض الخلاق هو ما جعله أحد عمالقة الشعر العربي المعاصر وأكثرهم تأثيراً.
وداعا سميح..قيثارتك مازالت تداعب وجداننا،رغم أن ليلنا،أوغل في الدياجير..لكن ثمة فسحة أمل..وشعاع نصر مبين يلوح في أفق فلسطين.إذ نراها اليوم ( فلسطين)،مجلّلة بالوجع ومخفورة بالبهاء: أمل يرفرف كلما هبّت نسمة من هواء.. خطوة بإتجاه الطريق المؤدية،خطوة..خطوتان ومن حقّنا أن نواصل الحلم.
ولتحيا الحياة.
سلام..هي فلسطين..فلا بهجة لأبنائها خارج فضائها..وهي مقامنا أنّى حللنا…وهي السفر.وقد ودعتها -يا سميح-ثم سافرت عبر الغيوم الماطرة،ذات يوم دامع من سنة 2014.
محمد المحسن
*ملحوظة :توزّعت أعمال سميح القاسم ما بين الشعر والنثر والمسرحية والرواية والبحث والترجمة،وقد صدر له في هذه الموضوعات،كما كتب عنه من قبل آخرين،أكثر من نحو 100 مؤلف،وكان عن جدارة من الأسماء التي لا يمكن تجاوزها في مسيرة النضال بالقلم،وبالقصيدة، وبالإحساس المتدفق،المؤمن بعدالة قضيته وعدالة الإنسان.
رحل سميح القاسم جسداً في 19 أوت/ أغسطس 2014،لكنه بقي حاضراً من خلال إرثه الشعري الغني الذي يجمع بين الإبداع الفني والالتزام الإنساني.كما قال عن نفسه في قصيدة “عنيدٌ أنا”: “عنيدٌ أنا كالصخور/ إذا حاولوا عصرها/ وقاسٍ أنا كالنسور/ إذا حاولوا قهرها”..
هكذا بقي شعره صخرة صلبة في وجه محاولات طمس الهوية الفلسطينية.