رؤي ومقالات

وحيد عيادة يكتب :- ثقيلة… !؟

الدنيا جسرٌ عابر، لا يقيم أحد فيه بيتًا، ولا يمدّ فيه جذورًا. ومع ذلك يتقاتل الناس على مواضع فوقه كأنهم خالدون. يتزاحمون، يصرخون، يتسابقون على مناصب وكراسٍ، فيما الحقيقة البسيطة تُهمس في آذان القلوب: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. إنها معبر قصير، فامضِ بخفة، ولا تحمّل نفسك ما يثقلك.

لكن السير بخفةٍ صار أصعب من حمل الجبال، لأن من أراد أن يحيا بقلب نقي في هذا الزمن وجد نفسه غريبًا. الأيام تمر عليه بطيئة كأن عقارب الساعة قد أُصيبت بالوهن؛ يومٌ واحد يكاد يُشبه عمرًا كاملًا، لأنه محاطٌ بالزيف من كل جانب. يتأمل وجوهًا تبتسم بصفرةٍ لا دفء فيها، يسمع كلماتٍ منمقة تُقال لا لتبني، بل لتخدع. فيشعر أن الزمن نفسه يتواطأ مع الخداع، وأن النقاء أصبح رياضةً شاقة لا يقدر عليها إلا من تمرّن على الصبر. وهنا يُصدح في أذن القلب قول النبي ﷺ: “بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء”.

وفي ميدان العمل، وخصوصًا في ساحات التربية والتعليم، تتضح الصورة أكثر: من يبيع ضميره يربح الجولة، ومن يجيد صناعة الأقنعة يقفز إلى المقاعد الأمامية. يصفق له من حوله، كأنما الفضيلة صارت جريمة، والصدق سذاجة. أما أصحاب المبادئ، أولئك الذين يختارون أن يمشوا على الحق، فإنهم يُتركون على الهامش، وكأنهم غرباء في ديارهم. ومع ذلك، فإن هذا الفوز الذي يتبجح به أهل الفتن ليس إلا ظلًا عابرًا، لامعًا في لحظة، منطفئًا في أخرى، زائلًا مع أول ريح من رياح الحق.

ويحضرنا هنا موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله”.
تلك الكلمة تختصر الطريق: لا عزة في منصب ولا في كرسي ولا في تصفيق، وإنما العزة في الصدق والثبات.

النفس الصافية تعرف أن الخلود لا يُشترى بالكراسي ولا يُصنع بالتصفيق. الخلود يُكتَب للذين غرسوا في قلوب طلابهم بذور المعرفة والصدق، ولو لم تُذكر أسماؤهم على لافتة. إن أسماءهم تُكتب في ذاكرة الله قبل أن تُكتب في ذاكرة البشر، وتظل آثارهم شاهدة حتى بعد أن يُطوى الجسد في التراب. قال تعالى: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ﴾.

أيها السائرون على الجسر بقلوبكم النقية، لا تبتئسوا من ثقل الأيام، فإن ثقلها شهادةٌ على صدقكم. كل دقيقةٍ تمرّ عليكم كعمرٍ كامل، لكنها تُرفع في صحائفكم نورًا مضاعفًا. واعلموا أن الله لا يترك الشموع التي أضاءت الطريق تنطفئ في الظلام، بل يجعل نورها يسري في خطى من يأتون بعدكم.

الدنيا جسر، نعم… لكنه جسرٌ لا يُقاس طوله بخطواتنا، بل بما نحمله من صفاءٍ ونحن نعبره. من وصل إلى نهايته وقد صان قلبه من التلوث، فقد وصل بحق. ومن حمل معه النقاء وسط الزيف، فقد فاز، ولو قال الناس غير ذلك. فلتكن قلوبنا كالماء الطاهر؛ لا يغيّره تعاقب الأيدي، ولا تكدّره الحجارة التي تُلقى فيه.

فالنصر الحقيقي ليس أن نعتلي المناصب، بل أن نصل إلى الضفة الأخرى بقلوبٍ ما زالت تنبض بالصدق، وأرواحٍ لم تستسلم لقسوة العالم. وإن مرّ اليوم علينا كأنه عمر، فإن العمر كله لن يكون إلا ساعة. ألم يقل الله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. وما النصر إلا صبر ساعة.

وفي النهاية: عبور جسر الدنيا إذن ليس مسألة وصولٍ سريع، بل مسألة روحٍ نقية تعرف أن الظلم مؤقت، وأن الحق خالد. وحين نصل إلى الضفة الأخرى، سنكتشف أن كل ما ظننّاه هزائم كان في الحقيقة انتصارات صامتة، وأن كل ما توهّمناه فوزًا لم يكن إلا سرابًا يتبخر في هواء التاريخ.

فلتكن قلوبنا نقية إذن، حتى وإن بدونا غرباء. فالغربة في الدنيا عزّة، والصدق في زمن الزيف بطولة، والنقاء في زمن الأنانية معجزة. وما النصر إلا صبر ساعة، وما الخلود إلا لأصحاب الفضيلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى