لديّ رغبةٌ في البكاء…..بقلم محب خيري الجمال

لديّ رغبةٌ في البكاء،
لكن لا أحد علّمني كيف يُبكى الكائن من الداخل
دون أن يتشقق الجلد،
ودون أن تنهار الملامح كجدارٍ ضربه الزلزال بيدٍ شفّافة.
أريد أن أبكي
كما تبكي الحجارة حين تصغي إلى أقدام الراحلين،
كأنّها تحفظ اتجاه الأحزان نحو الأبد.
في داخلي تعيش جغرافيا من الخراب،
الأنهار فيها لا تجري، بل تتحجّر،
والمدن تتثاءب من فراغٍ عتيق،
كأنها سئمت التكرار
سئمت الفجر الذي لا يُشرق حقًا،
والليل الذي لا يملك الشجاعة ليكون مظلمًا تمامًا.
الذاكرة سوقٌ عتيق
باعني فيه الوقتُ بنصف ثمن
وتركني عاريًا تحت عيون المارة
كأنني الخطأٌ الوحيد في جملة الكون.
أنا لا أطلب عزاءً، بل انهيارًا كاملًا.
أشتاق إلى سقوطٍ بلا نهاية،
هبوطٍ كالحقيقة، لا تُجادَل.
***
في مدينةٍ تشبه مقبرة مقلوبة،
سرتُ وحدي،
وأنا أعدُّ النوافذ التي انطفأت،
والأبواب التي لم تُفتح منذ غادرت أصواتها الأولى.
البيوت هنا، لم تعد بيوتًا،
بل صناديق للعزلة مكدّسة فوق بعضها،
والقلوب كأفرانٍ مهجورة
تحترق دون نار.
***
الطرقات لا تؤدي إلى مكان،
بل تعيدك إلى نفسك
دون أن تملك مفتاح الدخول.
الوجوه أقنعة تعبت من لبسها،
صارت تبكي بصمتٍ
خوفًا من أن تزعج قسوة العالم بابتسامة خادعة.
***
أين ذهب الذين بنوا أعشاشهم في صدورنا؟
أين الأطفال الذين خبأناهم في الحكايات كي لا تدهسهم الحياة؟
أين العشاق الذين وعدونا أن لا يغادروا
ثم أصبحوا صورًا معلّقة في ذاكرة الهاتف؟
يا أيها الحنين، يا بئرًا لا قاع له،
كيف تحوّلت إلى فخّ يبتلع من يجرؤ على النظر خلفه؟
البيوت سقطت لا بفعل الزلازل، بل بفعل الغياب.
والشوارع فارغة، لا لأنها بلا ناس،
بل لأنها بلا وجوه حقيقية.
***
أريد أن أبكي،
حتى تتفسّخ المفردات في فمي،
حتى يصبح الصمت لغة مفهومة،
حتى تتعفن البلاغة وينبت مكانها جذرٌ نقيّ
من جملة واحدة فقط
لا تقول شيئًا لكنها تشبهني.
***
لديّ رغبةٌ في البكاء،
بكاء يشبه الزفير الأخير لتمثالٍ تعب من الصمود،
بكاء لا يُسعف، بل يُدين.
بكاء يشبه الاحتراق البطيء لشجرة وحيدة
في حقلٍ لا أحد يراه،
ولا أحد يسمع اشتعالها.
***
أنا لا أبكي. أنا أتقشّر.
وأترك أجزاءً من قلبي على المقاعد،
في فواصل الكتب،
على زجاج النوافذ،
وفي أكفان القصائد
كأنني أختفي عمدا
ببطءٍ متقن، كجريمةٍ بلا جثة.