رؤي ومقالات

محمود جودت محمود قبها يكتب :فتح بين الثورة والسلطة تحدي المتسلقين وخطرهم على المشروع الوطني

على مدى يومين راودني الكثير من التردد قبل كتابة هذا المقال لكن ما جمعته من ملاحظات ودلائل حول خطورة المتسلقين والانتهازيين داخل الساحة الفتحاوية دفعني إلى المضي قدماً ونشر هذه الكلمات إيماناً بضرورة كشف الخطر قبل أن يستفحل.

منذ انطلاقتها عام 1965 جسّدت حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح روح الثورة الفلسطينية وكانت الشرارة التي أعادت إحياء الوعي الوطني بعد سنوات من التشتت والتيه كانت حركة فتح العنوان الأبرز للكفاح الفلسطيني والرافعة التي أعادت القضية الوطنية إلى طاولة العالم باعتبارها قضية تحرر عادلة غير أن التحول من مرحلة الكفاح المسلح إلى مرحلة السلطة عقب اتفاق أوسلو فتح الباب أمام إشكاليات غير مألوفة إذ استغل البعض هذا الانتقال للبحث عن مكاسب شخصية بدلاً من الالتزام بروح المشروع الوطني وهكذا دخلت إلى صفوف الحركة وجوه غريبة على قيمها تسلقت المناصب بلباس فتح لكنها لم تنتمِ إلى رسالتها هذا الخلل انعكس مباشرة على علاقة الحركة بجماهيرها رفعت شعار الكفاح المسلح هو الطريق لتحرير فلسطين وحملت البندقية لتقول للعالم إن هذا الشعب لم ولن يستسلم وبتضحياتها الكبيرة من شهداء وأسرى وجرحى نجحت فتح في وضع القضية الفلسطينية على جدول الأعمال الدولي باعتبارها قضية شعب يرزح تحت الاحتلال ويبحث عن الحرية.

فالشعب الذي ضحّى بالغالي والنفيس في سبيل فلسطين حين يرى بعض المسؤولين ينشغلون بالامتيازات الخاصة والمصالح الضيقة لا بد أن يشعر بالخذلان وفقدان الثقة وهكذا بدأت صورة فتح تهتز لا بسبب تاريخها المضيء، بل بفعل ممارسات فئة محدودة شوّهت المشهد لقد أضعف وجود المتسلقين البنية الداخلية للتنظيم وجرى تهميش العديد من الكوادر الشريفة التي حملت على أكتافها عبء النضال لعقود طويلة بينما تسلّق المنتفعون إلى مواقع القرار الأخطر من ذلك أن السلطة تحولت عند البعض من وسيلة لخدمة المشروع الوطني إلى غاية بحد ذاتها وأضحى المقعد والراتب أهم من القدس والأرض وحق العودة.

ففي حين كان الهدف المعلن من إنشاء السلطة الفلسطينية هو خدمة المشروع الوطني وبناء مؤسسات وطنية تعزز صمود الفلسطينيين على أرضهم إلا أن هذه المرحلة لم تخلُ من تحديات فالبعض رأى فيها فرصة لتحقيق مكاسب شخصية بعيداً عن جوهر رسالة فتح التحررية.

وهنا بدأ الخطر دخول وجوه غريبة على الحركة ارتدت عباءتها لكنها لم تحمل روحها المتسلقون والانعكاسات السلبية إن ظاهرة المتسلقين والانتهازيين ليست جديدة على تجارب الحركات التحررية في العالم لكنها تصبح أكثر خطورة عندما تمس عموداً فقرياً كحركة فتح فالمتسلق لا ينظر إلى القضية بعين المناضل بل بعين الباحث عن منفعة أو جاه أو موقع وبذلك تتحول الحركة بالنسبة له من حركة تحرر إلى وسيلة صعود شخصي.

فتح بين الثورة والسلطة أحد أبرز التحديات التي واجهت فتح كان التوازن بين كونها حركة ثورية تحمل مشروع التحرير وبين كونها رأس السلطة الوطنية الفلسطينية فالثورة تعني التضحية والمواجهة المباشرة مع الاحتلال بينما السلطة ترتبط بإدارة شؤون الناس اليومية ضمن شروط معقدة يفرضها الاحتلال نفسه هذا التناقض فتح الباب أمام كثير من الإشكاليات وجعل الحركة عرضة لانتقادات داخلية وخارجية لقد تحولت السلطة عند البعض من وسيلة لخدمة المشروع الوطني إلى هدف بحد ذاته فأصبح المنصب والراتب والامتيازات مقدمة على الثوابت الوطنية وهذا أخطر ما يمكن أن يحدث لحركة تحرر أن تتحول من مشروع وطني جامع إلى إطار سلطوي ضيق.

فالكادر النزيه والمخلص جرى تهميشه بينما تقدّم المنتفعون إلى الواجهة وأصبحت بعض المواقع التنظيمية أقرب إلى “حصص” موزعة بين أشخاص لا إلى مسؤوليات وطنية تستند إلى الكفاءة والتاريخ النضالي والنتيجة كانت اهتزاز صورة فتح لا بسبب تاريخها المضيء بل بفعل قلة أساءت إليها المسؤولية التاريخية والإصلاح المطلوب رغم كل ما سبق تظل فتح حتى اليوم العمود الفقري للمشروع الوطني الفلسطيني فهي الإطار الذي لا يمكن تجاوز دوره أو إلغاؤه بحكم تاريخها وحجمها وشبكة علاقاتها وامتدادها الشعبي لكن الحفاظ على هذه المكانة يستدعي مواجهة التحديات بجرأة وإجراء مراجعة شاملة تعيد للحركة وجهها الأصيل وتتمثل خطوات الإصلاح فيها.

هذا الانحراف أضر بصورة فتح التاريخية التي تأسست على التضحيات والفداء ومع ذلك تبقى فتح حتى اليوم العمود الفقري للمشروع الوطني الفلسطيني ولا يمكن الحديث عن مستقبل فلسطين من دونها ولذلك فإن الواجب الملحّ الآن هو مراجعة جادة تعيد للحركة روحها الأولى روح الشهداء والأسرى والمناضلين لا روح المكاسب والمصالح.

إعادة الاعتبار للكوادر النزيهة فرز الصفوف إحياء الديمقراطية الداخلية وربط السلطة بروح منظمة التحرير كلها خطوات جوهرية لاستعادة الثقة الشعبية وترسيخ دورها الطليعي إن فتح لم تولد لتكون حزباً سلطوياً أو إطاراً للامتيازات بل حركة تحرر وطني بحجم فلسطين والتاريخ سيحاسب كل من ساهم في تشويه صورتها أو تقزيمها فشعبنا اليوم بحاجة إلى فتح التي عرفها منذ البدايات حركة جامعة تقود الجماهير نحو الحرية والاستقلال لا إلى مصالح ضيقة أو مكاسب شخصية.

التمييز بوضوح بين الكادر النزيه الذي ضحى من أجل فلسطين وبين الانتهازيين الذين استغلوا فتح لمصالح شخصية إعادة الاعتبار للمناضلين إعادة دمج وتقدير الكوادر التي جرى تهميشها ظلماً وإعطائها مواقع قيادية تتناسب مع دورها التاريخي ترسيخ الديمقراطية الداخلية عبر انتخابات نزيهة وشفافة تضمن وصول الكفاءات الحقيقية لا أصحاب النفوذ والمال ربط السلطة بروح المقاومة بحيث يبقى الهدف الأساسي هو التحرير لا التكيف مع الواقع المفروض إحياء البعد الشعبي إعادة بناء جسور الثقة مع الشعب عبر العودة إلى الميدان وخدمة المواطن الفلسطيني بشكل مباشر رؤية نحو المستقبل إن التاريخ لا يرحم والشعوب لا تنسى وإذا أرادت فتح أن تحافظ على إرثها كحركة قادت الثورة الفلسطينية لعقود فإن عليها أن تستعيد روحها الأولى.

المطلوب اليوم ليس “فتح المناصب” بل “فتح الشهداء” و”فتح الأسرى” و”فتح الجماهير” المطلوب حركة تعبر عن فلسطين كلها لا عن فئة محدودة أو مصالح ضيقة إن المشروع الوطني الفلسطيني يمر بمرحلة فارقة في ظل تعقيدات المشهد الدولي وانقسام الساحة الداخلية وتصاعد العدوان الإسرائيلي وفي مثل هذه المرحلة لا بد لـ فتح أن تتقدم الصفوف بروحها الثورية الأصيلة لا بثقافة المكاسب الفردية.

لقد انطلقت فتح من رحم الشعب الفلسطيني لتقود ثورته ولم تولد لتكون حزب سلطة أو شركة مصالح والتاريخ كفيل بمحاسبة كل من أساء إليها أو حاول اختزالها إن حاجة شعبنا اليوم إلى فتح لم تعد خياراً بل ضرورة وطنية والعودة إلى الجذور هي الطريق الوحيد لاستعادة الثقة ودور القيادة ففتح بحجم فلسطين لا تختزلها امتيازات ولا تحصرها مقاعد هي حركة تحرر وطني تحمل مشروع الحرية والاستقلال وستظل كذلك ما دام هناك فلسطيني واحد يؤمن بحقه في أرضه ووطنه .

فتح روح الثورة فتح لم تكن مجرد تنظيم سياسي بل كانت شرارة بعثت الروح في جسد الشعب الفلسطيني وأعلنت أن هذا الوطن له رجال يحمونه ويضحون في سبيل.

فتح والتاريخ هي أول الرصاص وأول الحجارة وأول من أعاد القضية الفلسطينية إلى واجهة العالم لتُكتب في سجلات التاريخ كقضية تحرر عادل.

فتح والهوية الوطنية حملت فتح هموم الفلسطينيين في المنافي والمخيمات وكانت حاضنة الهوية الوطنية التي حاول الاحتلال طمسها.

فتح والشرعية الشعبية لم تأتِ فتح من فوق بل انطلقت من رحم الناس من دماء الشهداء وآهات الأسرى وصبر اللاجئين ولهذا بقيت العمود الفقري للمشروع الوطني.

فتح والتحديات رغم ما واجهته من انقسامات وتحديات، بقيت فتح وفيةً لفلسطين وستظل ما بقيت فلسطين تنادي أبناءها.

فتح ليست سلطة بل ثورة السلطة مرحلة أما فتح فهي فكرة أعمق من أي موقع أو منصب هي إرادة التحرر المستمرة جيلاً بعد جيل.

فتح والمستقبل ستبقى فتح مدرسة النضال التي تخرّج منها الشهداء والقادة والمناضلون وستظل البوصلة التي توجه الفلسطينيين نحو الحرية والاستقلال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى