إبراهيم نوار يكتب :سيناريوهات ما بعد الحرب وخطورة غياب الرؤية الفلسطينية

على الأرض في غزة وما حولها تبدو عناصر المشهد السياسي والعسكري على الوجه التالي: جيش الاحتلال يبدأ خطة تهجير الفلسطينيين واحتلال قطاع غزة بأكمله، تمهيدا لحكم عسكري يستمر حتى حدوث اتفاق على تشكيل إدارة عربية – دولية بموافقة إسرائيل. وفي هذا السياق اجتمع رئيس الاركان مع قائد وضباط المنطقة العسكرية الجنوبية لوضع الخطط التفصيلية لتفريغ غزة من سكانها، واحتلال الأرض المحروقة، وتهجير السكان بدءا من مدينة غزة قسرا إلى ركن ضيق في جنوب غرب القطاع. يتم هذا في الوقت الذي يستمر فيه إخضاع دخول المساعدات الإنسانية لسيطرة جيش الاحتلال، ومنع دخول المساعدات تماما إلى المناطق التي يسيطر عليها لتجويع من رفضوا التهجير أو قتلهم، و إتاحة المساعدات فقط في المناطق التي حددها الاحتلال لتكون بمثابة “معازل” محاصرة عسكريا لإقامة السكان الذين سيتم ترحيلهم. على الأرض كذلك تشهد اسرائيل موجة احتجاجات مدنية غير مسبوقة في كل المدن تقريبا، تطالب بإنهاء الحرب واستعادة المحتجزين بواسطة اتفاق سياسي. في تل أبيب فقط، التي يقطنها أقل من نصف مليون شخص شارك في الاحتياجات يوم الأحد الماضي أكثر من نصف سكانها، في تحد صارخ لموقف نتنياهو وحكومة حرب الإبادة الوحشية ضد الفلسطينيين. الصورة في تل أبيب تتناقض تناقضا صارخا مع الحال في العواصم العربية “النائمة” بأوامر استبدادية، ولا تستطيع التعبير عن مشاعرها في التضامن مع الشعب الفلسطيني الصامد، الذي يستشهد من أطفاله ونسائه ورجاله يوميا ما يقرب من مئة شهيد على الأقل. ويتضمن المشهد كذلك أحاديث تدور حول مقترحات جزئية جديدة لتبادل المحتجزين والأسرى، تبدو مقطوعة الصلة بما يحدث على الأرض. وفي كثير من عواصم العالم تزداد الرغبة في بلورة موقف سياسي واضح لإنهاء الحرب الدعوة الى إقرار صيغة للسلام على أساس حل الدولتين، وهو الحل الذي تحاول حكومة نتنياهو نسف كل الجسور التي يمكن أن تؤدي إليه بإعلان إقامة مشاريع استيطان جديدة تشمل كل الأرض الفلسطينية التي يقرر القانون الدولي بأنها أرض محتلة، وهي الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة.
الأولويات الراهنة
الموضوعات التي تحظى باهتمام المفاوضات في الوقت الحاضر تركز على الإفراج عن الرهائن أولا، من خلال صفقات جزئية مرحلية، وهو ما يستجيب لمصلحة إسرائيل، في حين أن هناك خمسة أولويات يجب أن تحظى باهتمام أي مشروع جاد لحل سياسي في غزة تشمل، أولا إعلان وقف الحرب. وثانيا حرية إدخال المساعدات الإنسانية تحت إشراف دولي. وثالثا الإفراج المتزامن عن الأسرى الفلسطينيين و المحتجزين الاسرائيليين (الأحياء والأموات). ورابعا إنهاء الحصار وانسحاب القوات الإسرائيلية على أن تحل محلها قوات مشتركة فلسطينية – عربية – دولية، طبقا لجدول زمني محدد. وخامسا بدء مفاوضات تحت إشراف دولي لرسم ملامح العلاقات المستقبلية بين الفلسطينيين في الأرض المحتلة وإسرائيل. كذلك فإنه بينما تجري المفاوضات تتأهب أطراف عربية بما فيها السلطة الفلسطينية لممارسة دور في إدارة غزة بعد انتهاء الحرب، رغم أن هناك فيتو على وجودها في غزة في الوقت الحاضر.
في الوقت نفسه بدأت تطفو على السطح مشاريع ما بعد الحرب في غزة، بما فيها مشروع معهد “مسغاف” للأمن القومي الاستراتيجية الصهيونية لتهجير الفلسطينيين. هذا المشروع الذي تبلور في أوائل العام الماضي أصبح محورا رئيسيا من محاور مشاريع ما بعد الحرب في غزة، وحصل على قوة دولية بعد أن انضم إليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ولا يزال رئيس معهد “مسغاف” اليهودي المغربي الأصل مئير بن شبات يعتبر أن الحل الجذري في غزة يبدأ بتهجير الفلسطينيين تماما. وفي مقال نشره على موقع المعهد في 24 من الشهر الماضي قال بن شبات أن خطة ترامب للهجرة “الطوعية” حسب تعبيره هي الحل. وقال أن الرد الإسرائيلي على حماس يتمثل في استراتيجية تتكون من أربعة مكونات: أولًا، أن تُعزز عمليا مبادرة الرئيس ترامب للهجرة الطوعية لسكان غزة. فهذا ليس حلًا حقيقيا لمشاكل القطاع الأساسية فحسب، بل تدعمه استطلاعات رأي، كما يروج، مؤكدا أن التهجير يمكن أن يخفف من حدة الأزمة الإنسانية! ثانيا، أن تفرض إسرائيل إغلاقًا كاملًا للإنترنت والاتصالات في غزة. ثالثا، يجب أن تقتصر المساعدات الإنسانية على المناطق “الآمنة” المُحددة فقط، وعدم إدخال المساعدات إلى المناطق التي صدرت تعليمات للمدنيين بإخلائها. رابعا، استهداف قيادة حماس في الخارج وتصفيتها جسديا.
خطة نتنياهو – ترامب
أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يوم الخميس 14 من الشهر الحالي بيانا حدد فيه خمسة مبادئ أساسية لإنهاء الحرب. وتضمنت هذه المبادئ، أولا تفكيك قدرات حماس العسكرية. ثانيا إعادة جميع الرهائن، الأحياء منهم والأموات. ثالثا نزع سلاح قطاع غزة؛ ويعني ذلك ليس فقط نزع سلاح حماس، بل أيضا ضمان عدم تصنيع أي أسلحة داخل القطاع أو تهريبها إليه. رابعا الاحتفاظ بالسيطرة الأمنية الإسرائيلية على غزة، بما في ذلك المحيط الأمني لقطاع غزة، وهو ما يعني السيطرة على محور فيلادلفيا بين القطاع والحدود المصرية. خامسا إقامة إدارة مدنية بديلة، لا تكون تابعة لحماس ولا للسلطة الفلسطينية.
ويتضمن الحوار الإسرائيلي – الأمريكي بشأن مستقبل غزة إمكانية قيادة واشنطن لإدارة مؤقتة، تشارك فيها سبع دول عربية، تشرف على غزة إلى حين نزع سلاحها واستقرارها، وظهور إدارة فلسطينية قابلة للاستمرار. وأوضحت تقارير إعلامية أن الاتفاق بشأن خطة مستقبل غزة لا يتضمن جدولا زمنيا محددا لمدة بقاء هذه الإدارة، لكن بقاءها سيعتمد على الوضع على الأرض. ويستلهم الخبراء المشاركون في هذه المناقشات أفكارهم من تجربة “مجلس الحكم” الذي أنشأه الحاكم “المدنى” بول بريمر بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
مشروع مركز ويلسون
لخص السفير جيمس جيفري، أحد أكبر خبراء الشرق الأوسط في الدبلوماسية الأمريكية، الأفكار الأساسية التي وردت في عدد من الدراسات الصادرة بشأن مستقبل غزة بعد انتهاء الحرب (معهد واشنطن- 13 من الشهر الحالي)، مبينا أن أهم القضايا المتعلقة بإعادة البناء السياسي بعد الحرب في غزة قد نوقشت بالفعل، وهو ما يعني أن صناع السياسة المعنيين بالشرق الاوسط واللاعبين فيه بإمكانهم الاعتماد على تلك الدراسات لتطوير سياساتهم خلال الفترة المقبلة. وتعتبر الدراسة التي أصدرها مركز ويلسون في أوائل العام الماضي واحدة من أهم هذه الدراسات لأنها اعتمدت على مساهمات قدمها خبراء إسرائيليون وأمريكيون، منهم جيمس جيفري نفسه. وهناك أيضا دراسة مهمة أصدرتها في العام الحالي “مؤسسة راند” المعروفة بتعاونها مع المؤسسة العسكرية الأمريكية. كما توجد دراسة أعدها مركز دراسات الإمارات بالتعاون مع عدد من الباحثين الإسرائيليين.
وقال جيمس جيفري أن العامل المشترك في هذه الدراسات هو الاتفاق على ضرورة أن تلعب الولايات المتحدة دورا دبلوماسيا ورقابيا جوهريا في أي خطة سياسية انتقالية بعد الحرب. و تتبنى دراسة “مؤسسة راند: نهجاً مماثلاً، حيث تقترح “إنشاء” قوة أمنية مؤقتة متعددة الجنسيات” تضم عناصر من الجيوش الغربية والعربية، بدعم من قوة أمنية فلسطينية يخضع تشكيلها للفحص والتدريب. هذا الاقتراح يلتقي مع ما تقوم به مصر حاليا من تدريب قوة أمنية فلسطينية تم اختيار أفرادها بعناية، ويجري تدريبهم على أعلى المستويات المهنية. أما دراسة الإمارات العربية المتحدة فإنها تتضمن اقتراحا بتشكيل “بعثة دولية مؤقتة” دون توفير تفاصيل كثيرة عن تكوينها، لكنه يحدد بوضوح الانتقال إلى الحكم الذاتي لغزة كحد أدنى، وهو الوضع النهائي الذي تتصوره الخطط الثلاث.
ومن الملاحظ في هذا السياق أن غياب المشروع الفلسطيني يمثل نقطة ضعف رئيسية طالما استمر الانقسام الحاد في الصف الفلسطيني بين السلطة وحماس. حتى الآن لا تزال حماس هي المقاومة في غزة، والمقاومة هي حماس. ولا تزال حماس هي غزة، وغزة هي حماس. ومن يتصور أنه يستطيع نزع حماس من غزة خارج إطار اتفاق سياسي تكون حماس جزءا منه غارق في وهم كبير. حماس يمكن أن تتخلى عن السلاح ضمن اتفاق سياسي ينص صراحة على إنهاء الحرب، مع ضمانات دولية لعدم رجوع إسرائيل عن ذلك. وتعتبر حماس حاليا أن وجود أي قوة عسكرية في غزة ستكون بمثابة قوة احتلال. المشروع الاسرائيلي – الأمريكي لا يقبل وجود كيان فلسطيني سياسي مستقل، ويرفض مطلقا وجود دولة للفلسطينيين.ومن ثم فإن السلطة الفلسطينية يجب أن تفهم ان هجومها على حماس والدعوة الى تصفيتها ما هي إلا مساندة مجانية لخطة نتنياهو، لن تحقق هي منها أي مكاسب، ولن ينال الفلسطينيون منها غير انشقاق صفوفهم.