الثقافة… زاد الطريق نحو تنمية لا تموت… د لمياء موسى

“الثقافة… زاد الطريق نحو تنمية لا تموت”
قراءنا الأعزاء،
في هذا المحور سنتناول موضوعًا كثيرًا ما طُرح وتداوله الكتّاب والصحفيون، والمصلحون، ورجال الدولة، في الصحف والدوريات، وفي البحوث الأكاديمية، وأطروحات الماجستير والدكتوراه، بل وحتى في المؤتمرات والمحافل الدولية. إنه موضوع “علاقة الثقافة بالتنمية”، ذلك العنوان العريض الذي طالما أُفرِغت فيه محابر، وارتفعت بذكره أصوات، لما له من أهمية عظمى في مسار التقدم والازدهار لأي وطن.
لكنني، وكما تعوّدت في كتاباتي، لا أُطيل الوقوف عند ما قيل وما كُتب، بل أُفضّل أن أضع أقدامي – وأقدامكم معي – على أرض الواقع. نعم، سأتناول في الجزء الأول من هذا المقال الجانب النظري للعلاقة بين الثقافة والتنمية، دون إغفال لأهم مفاهيمها ودورها المفترض. ولكن الأهم، في رأيي، هو الجزء الثاني، حين ننتقل من فضاء التنظير إلى واقع الحياة:
هل تُترجَم كل هذه الكتب والأبحاث والمؤتمرات إلى أفعال؟
هل تكفي كثرة المثقفين والمفكرين وحدها لدفع عجلة التنمية؟
أم أن القليل من الفكر، إذا صاحبه فعل قوي وإرادة عملية، هو السبيل الحقيقي للتطور؟
فلنبدأ من حيث يُفترض أن نبدأ:
ما هي الثقافة؟
ما هي التنمية؟
وكيف تنعقد بينهما الصلة؟
وما جدوى كل هذا الحديث إن لم نرَ له أثرًا في أوطاننا؟
فلنبحر معًا في هذا المقال، على بركة الله.
في اللغة العربية، تعني الثقافة التهذيب والدراية. أما في علم الاجتماع، فقد قدّم العالمان كلوكهون وكروبير تعريفًا شاملاً للثقافة، بوصفها نماذج من أساليب الفكر ذات طابع مستمر، تتجلى في المشاعر وردود الأفعال المكتسبة والمطوّرة، ولا سيما عبر الرموز. وتمثل هذه الرموز خلاصة ما تكتسبه الجماعات البشرية عبر الزمن، وتتجسّد في مواقف مادية تعبّر عن أفكارٍ منطقية متوارثة، تشكل نواة الثقافة، وبخاصة تلك المرتبطة بالقيم.
تختلف الثقافة من شعب إلى آخر، وتنقسم إلى نوعين رئيسيين: ثقافة مادية وثقافة لا مادية.
الثقافة المادية: تشمل الأدوات والمعدات والمنحوتات اليدوية، واللباس، والمعمار، وكل ما هو ملموس من منتجات الإنسان.
أما الثقافة اللامادية: فهي الأفكار، والاتجاهات، والتقاليد، والمعتقدات، والأدب، والشعر، والفنون، والأحلام والطموحات، وكل ما يعكس وجدان الجماعة وروحها.
وباختصار، الثقافة هي جوهر النشاط الإنساني الخالص، وثمرة الجهد الإبداعي في الفن والفكر والأدب، وهي مرتبطة بكل جوانب الحياة، وتشكل هوية الإنسان، وتعبّر عن روحه وسعيه نحو المعنى والتطور.
أما التنمية، فقد عرّفتها اللجنة العالمية للتنمية المستدامة في تقريرها الصادر عام 1987 بأنها:
“تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة.”
كما ورد تعريف آخر في إعلان الحق في التنمية، الذي أقرّته الأمم المتحدة سنة 1986، حيث وُصفت التنمية بأنها:
“عملية شاملة ذات أبعاد اقتصادية، اجتماعية، ثقافية وسياسية، تهدف إلى تحقيق التحسن المستمر لرفاهية جميع السكان، وضمان التمتع الكامل بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية.”
وقد تطوّر مفهوم التنمية عبر العقود، فبعد أن ارتبط في بداياته بالنمو الاقتصادي فقط، بدأت النظرة الحديثة توسّع الإطار لتشمل الأبعاد الاجتماعية والبيئية، إلى جانب الأبعاد التقنية والإدارية.
وهكذا، يمكن القول إن التنمية اليوم تقوم على ثلاثة أبعاد رئيسية مترابطة:
البعد الاقتصادي: تحقيق النمو وزيادة الإنتاج وتوفير الفرص.
البعد الاجتماعي: تحسين جودة الحياة، والعدالة الاجتماعية، وضمان الخدمات الأساسية.
البعد البيئي: حماية الموارد الطبيعية، وضمان استدامتها للأجيال القادمة.
وبعد أن تعرّفنا إلى مفهومي الثقافة والتنمية، بات من المهم أن ننتقل إلى السؤال الجوهري:
ما العلاقة الممكنة بين البعد الثقافي والبعد التنموي؟
هل بينهما صلة حقيقية أم أن كلا منهما يسير في طريق منفصل؟ وهل يمكن لأحدهما أن يؤثر في الآخر، سلبًا أو إيجابًا؟
بل الأهم من ذلك:
إذا كنا نطمح إلى تنمية مستدامة تمتد آثارها إلى الأجيال القادمة، فهل يكفي أن نعتمد على الاقتصاد، والتقنية، والإدارة، وحدها؟ أم أن علينا أن ندرك أن الثقافة عنصرٌ جوهري لا غنى عنه في أي مشروع تنموي ناجح؟
هذه الأسئلة تفتح لنا الباب لمواصلة الحديث، والبحث عن الأجوبة التي ترسم ملامح العلاقة العميقة بين الثقافة والتنمية… فدعونا نكمل.
لقد أكد إعلان مكسيكو عام 1982 على الدور الجوهري الذي تلعبه الثقافة في عملية التنمية، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. وقد اعتُبر الحق في التنمية الثقافية للإنسان أحد الحقوق الأساسية التي تشكل ما يُعرف اليوم بـ ” رأس المال الاجتماعي”، ذلك الذي يُسهم في تطوير المعرفة، وبناء المهارات، وتعزيز قدرة الإنسان على الإبداع والإنتاج.
لم تقف هذه الرؤية عند حدود الإعلان، بل تبنّتها منظمات دولية كبرى، في مقدمتها الأمم المتحدة واليونسكو، حيث أقرّت أن الثقافة ليست مجرد مكوّن رمزي أو جمالي، بل هي عنصر أساسي لتحقيق التنمية المستدامة.
فلا يمكن الحديث عن تطور تكنولوجي أو صناعي حقيقي، دون تنمية ثقافية موازية، تستهدف الإنسان ذاته، بوصفه المنتج الأول لتلك الأدوات التكنولوجية ومبتكرها.
كما اعتُبرت الصناعات الثقافية والإبداعية من أسرع القطاعات نموًا، وأُثبت أنها خيار تنموي مستدام، لما تحققه من فرص اقتصادية، وما توفره من فضاءات للتعبير، وما تسهم فيه من تعزيز الهوية، وتحقيق التماسك الاجتماعي.
وترتكز الاستراتيجيات الدولية الحديثة على دمج الثقافة في سياسات التنمية، سواء في مجالات التعليم، أو الصحة، أو البيئة، أو السياحة، إلى جانب دعم القطاع الثقافي من خلال تمكين الصناعات الإبداعية، بما يساهم في التخفيف من حدة الفقر، وتوسيع دوائر المشاركة المجتمعية، وبناء مجتمعات أكثر شمولًا وإنصافًا.
لذلك، فإن التنمية الثقافية تقوم على تمكين الأنشطة الثقافية داخل المجتمع، بما يسهم في تحسين جودة حياة الأفراد، وزيادة دخولهم، وتحقيق رفاهيتهم، من خلال تسهيل الاستثمار في القطاع الثقافي، وفتح المجال أمام جميع فئات المجتمع للانخراط في مشاريع ثقافية تعزز من دورهم وتُفعّل طاقتهم الإبداعية.
وتكمن أهداف التنمية الثقافية في الحفاظ على الموروث الثقافي والهوية المجتمعية، بما يشمل القيم، والمعتقدات، والعادات، والتقاليد. ويتجلى ذلك في دعم الموسيقى، المتاحف، المسارح، المكتبات، الفنون الأدائية، الأدب، الكتب، النشر، السياحة، وغيرها من مظاهر التعبير الثقافي.
إن هذا المسار يُسهم في تعزيز الفكر الإبداعي وتنشيط النمو الاقتصادي، فالثقافة ليست ترفًا، بل استثمارًا فعليًا في الإنسان، حين يُمنَح الفرصة لتسويق عطائه الفكري والإبداعي، مما يؤدي إلى زيادة الصادرات، ورفع الدخل القومي، وتنشيط حركة التبادل التجاري، وخلق فرص عمل، والمساهمة في خفض معدلات الفقر.
وليس هذا فحسب، فالثقافة تلعب دورًا محوريًا في التنمية الاجتماعية، من خلال تحسين جودة التعليم، وتعزيز فهم التاريخ، وتزويد الشباب بالمهارات اللازمة للتفاعل مع عالم متعدد الثقافات، وتوسيع آفاقهم الفكرية.
كما أن للثقافة أثرًا فاعلًا في دعم التنمية البيئية، من خلال تطوير الوعي البيئي، وغرس سلوك إيجابي دائم يحترم الطبيعة ويصون مواردها، ويعمل على تحقيق التوازن البيئي الضروري لاستدامة الحياة.
إن قدرة قطاع الثقافة، بما يمتلكه من تنوع وقدرة الأفراد على الإبداع والابتكار، تجعله محورًا أساسيًا من محاور التنمية الحديثة. ولهذا، تُعدّ الثقافة اليوم أحد الركائز الحقيقية للتنمية المستدامة، لا باعتبارها ترفًا، بل باعتبارها محركًا حيويًا لبناء الإنسان وتعزيز المجتمع.
ومن هذا المنطلق، فإن تمكين الفئات الهشّة، بما في ذلك الأقليات، والمهاجرين، والشعوب الأصلية، يُعدّ شرطًا ضروريًا لتحقيق تنمية شاملة، لأن التنمية لا تُبنى على الهياكل فقط، بل على الناس، كل الناس، دون إقصاء أو تهميش.
وقد أكدت منظمة الأمم المتحدة على هذه الرؤية، حين أعلنت عام 2021 عامًا لـ” الاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية”، وهو ما يُعرف أيضًا بـ” الاقتصاد البرتقالي”، القائم على المعرفة والتفاعل الخلاق بين الإبداع الإنساني من جهة، والأفكار، والمعرفة، والتكنولوجيا من جهة أخرى.
ويقوم هذا النوع من الاقتصاد على القيم الثقافية والتعبيرات الإبداعية للفرد والجماعة، فيصنع من الفن والفكر موردًا اقتصاديًا، ومن التنوع قوةً دافعة، ومن الخيال وسيلةً للتنمية.
وبذلك، يُسهم الاقتصاد الإبداعي بدور فعّال في تحقيق أبعاد التنمية المستدامة الثلاثة: الاقتصادي، الاجتماعي، والبيئي، مستندًا إلى الإنسان بوصفه المنتج الحقيقي لأدوات النهوض والتقدم.
وعلى الرغم من الدعوات الدولية المتكررة التي تُنادي بجعل الثقافة ركيزة أساسية في خطط التنمية المستدامة، لا يزال القطاع الثقافي مهمّشًا في كثير من السياسات الوطنية، يُنظر إليه كعنصر ثانوي، بينما تُمنح الأولوية للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، رغم أن الثقافة تؤثّر فيها جميعًا، وتُشكّل خلفيتها الفكرية والوجدانية.
إن تفعيل دور الثقافة في التنمية لا يمكن أن يتم دون زيادة الاستثمارات في هذا القطاع، وتنمية الموارد البشرية وتأهيل المؤسسات الثقافية ودعمها، وسَنّ التشريعات الملائمة، ووضع خطط تنموية واضحة لإدارة الثقافة ومنتجاتها، على نحوٍ يراعي الخصوصية المحلية ويتكيف في الوقت نفسه مع المشهد العالمي في ظل العولمة، دون التفريط بالهوية.
ومن خلال الانفتاح على الثقافات المتنوعة، وتعزيز الحوار الثقافي وتبادل الخبرات، يمكن أن تلعب الثقافة دورًا كبيرًا في تحقيق تنمية مستدامة أكثر فاعلية وشمولًا، تقوم على التعاون، وتقبّل الآخر، والاعتراف بالتنوّع كمصدر غني للإبداع، لا كتهديد للخصوصية.
و رغم ما يُطرح ويُقال عن أهمية الثقافة وعلاقتها بالتنمية، يظل السؤال مشروعًا ومُلحًّا: هل يمكن أن تتحوّل الثقافة – بما تحمله من تراث وموروث شعبي وتاريخي – إلى حاجز يعيق مسار التنمية بدلًا من أن يكون محرّكًا لها؟
بما في ذلك الأقليات، والمهاجرين، والشعوب الأصلية، يُعدّ شرطًا ضروريًا لتحقيق تنمية شاملة، لأن التنمية لا تُبنى على الهياكل فقط، بل على الناس، كل الناس، دون إقصاء أو تهميش.
وقد أكدت منظمة الأمم المتحدة على هذه الرؤية، حين أعلنت عام 2021 عامًا لـ” الاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية”، وهو ما يُعرف أيضًا بـ” الاقتصاد البرتقالي”، القائم على المعرفة والتفاعل الخلاق بين الإبداع الإنساني من جهة، والأفكار، والمعرفة، والتكنولوجيا من جهة أخرى.
ويقوم هذا النوع من الاقتصاد على القيم الثقافية والتعبيرات الإبداعية للفرد والجماعة، فيصنع من الفن والفكر موردًا اقتصاديًا، ومن التنوع قوةً دافعة، ومن الخيال وسيلةً للتنمية.
وبذلك، يُسهم الاقتصاد الإبداعي بدور فعّال في تحقيق أبعاد التنمية المستدامة الثلاثة: الاقتصادي، الاجتماعي، والبيئي، مستندًا إلى الإنسان بوصفه المنتج الحقيقي لأدوات النهوض والتقدم.
وعلى الرغم من الدعوات الدولية المتكررة التي تُنادي بجعل الثقافة ركيزة أساسية في خطط التنمية المستدامة، لا يزال القطاع الثقافي مهمّشًا في كثير من السياسات الوطنية، يُنظر إليه كعنصر ثانوي، بينما تُمنح الأولوية للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، رغم أن الثقافة تؤثّر فيها جميعًا، وتُشكّل خلفيتها الفكرية والوجدانية.
إن تفعيل دور الثقافة في التنمية لا يمكن أن يتم دون زيادة الاستثمارات في هذا القطاع، وتنمية الموارد البشرية وتأهيل المؤسسات الثقافية ودعمها، وسَنّ التشريعات الملائمة، ووضع خطط تنموية واضحة لإدارة الثقافة ومنتجاتها، على نحوٍ يراعي الخصوصية المحلية ويتكيف في الوقت نفسه مع المشهد العالمي في ظل العولمة، دون التفريط بالهوية.
ومن خلال الانفتاح على الثقافات المتنوعة، وتعزيز الحوار الثقافي وتبادل الخبرات، يمكن أن تلعب الثقافة دورًا كبيرًا في تحقيق تنمية مستدامة أكثر فاعلية وشمولًا، تقوم على التعاون، وتقبّل الآخر، والاعتراف بالتنوّع كمصدر غني للإبداع، لا كتهديد للخصوصية.
و رغم ما يُطرح ويُقال عن أهمية الثقافة وعلاقتها بالتنمية، يظل السؤال مشروعًا ومُلحًّا: هل يمكن أن تتحوّل الثقافة – بما تحمله من تراث وموروث شعبي وتاريخي – إلى حاجز يعيق مسار التنمية بدلًا من أن يكون محرّكًا لها؟
نعم، يحدث ذلك عندما يتراكم التراث من غير تمحيص، ويُصبح عبئًا على الحاضر بدل أن يكون زادًا للمستقبل. عندما تترسّخ الأمثال الشعبية المثبّطة، ويتحوّل التاريخ إلى سرديات جامدة، لا تفتح أفقًا للابتكار، بل تسجنه في قوالب ماضوية، عندها تنكمش الطموحات، ويتراجع الخيال الخلّاق، وتدخل الثقافة نفسها في حالة جمود، يعكس جمود السياسة في دعم العملية الثقافية وتنشيطها.
وبعد أن تناولت ما قيل عن أهمية الثقافة في عملية التنمية، هل تُترجم هذه الأقوال إلى سياسات فعلية؟ هل نرى قوانين وتشريعات تُسنّ من أجل تفعيل الدور الثقافي في عملية التنمية؟ أم ما زالت الخطب الرنانة والدراسات النظرية تتصدّر المشهد، بينما الواقع على الأرض يفتقر لأي أثر ملموس لهذه الشعارات؟
نرى المسؤولين حاضرين في المؤتمرات الدولية يشاركون في ندوات ومنظمات دولية تُشجّع على هذا الربط، لكن هل يعودون بخطط قابلة للتطبيق؟ أم أنّ التنفيذ يسير على طريقة السلحفاة، بينما تسبقنا المجتمعات الأخرى بخطى الواثق؟
إن الفجوة بين النظرية والتطبيق باتت صارخة؛ فالكلام النظري يُحلّق إلى الفضاء، أما الواقع الفعلي فيبقى على الأرض، يرزح تحت وطأة التهميش والبطء واللا جدية.
من حق كل دولة أن تحافظ على ثقافتها، بل عليها أن تفعل ذلك، لكن الأهم هو أن تُترجم هذه الثقافة إلى تنمية اقتصادية واجتماعية وبيئية حقيقية. المؤسف أنّنا نتحدث منذ أكثر من خمسين عامًا عن هذا الربط، وما زلنا نكرّر الحديث ذاته، رغم أنّ الحاجة الآن باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
اليوم، نحن أمام غزو ثقافي كاسح، موحّد في شكله ومضمونه، يقتحم حياة شبابنا، يهدد تنوّع هويتنا، ويجعل العالم قرية بثقافة واحدة، وسلوك استهلاكي واحد. في هذا السياق، تزداد أهمية الدور الثقافي، لا فقط من أجل دعم التنمية، بل من أجل حماية الهوية نفسها.
إن تفعيل الثقافة اليوم لا يعني فقط الحفاظ على التراث، بل يعني حماية الوجود، والدفاع عن التنوّع، واستعادة الإبداع المحلي في وجه هذا السيل الجارف من التنميط. لم تعد المسألة رفاهًا فكريًا، بل ضرورة وجودية تمس جوهر الإنسان في مجتمعاتنا.
لم يعد الغزو الثقافي مجرّد شبح يتسلل خلسة إلى مجتمعاتنا، بل أصبح واقعًا جليًّا، يفرض نفسه علينا مع كل نقرة زر، مع كل شاشة مضيئة، مع كل هاتف ذكي يدخل غرفة نومنا دون استئذان. هذا الغزو لم يعُد يهدد فقط المجتمعات الشرقية أو المحافظة، بل بات يُقلق حتى المجتمعات الغربية التي باتت تئن من توحّدٍ ثقافي يسطّح الفرد ويمحو خصوصيته.
نحن لا نعيش في مواجهة ثقافة أخرى، بل أمام ثقافة واحدة تُصدّر إلى الجميع، تُسوّق على أنها الحداثة، وتُعرض على أنها الخيار الأوحد. تغزو الأذواق، وتشكّل العقول، وتُعيد إنتاج الإنسان في قوالب استهلاكية مكرورة، حتى أصبحت الهوية مهددة، والخصوصية تتآكل، والانتماء يذوب.
من هنا، لم يعُد الحفاظ على التراث والثقافة مجرّد بُعد اجتماعي أو اقتصادي، بل أصبح بعدًا وجدانيًا، قضية هوية، نداء حياة. ومع ذلك، نسأل أصحاب القرار: أين أنتم من هذا التحدي؟ أين أنتم من الأبحاث العلمية التي تُنادي بتفعيل الثقافة في التنمية؟ أين أنتم من توصيات المنظمات الدولية التي تحث على دعم الثقافة كركيزة للتقدم؟ وأين هي القوانين التي تُعزز هذا الدور وتُحيله إلى واقع حيّ؟
وإن وُجدت هذه القوانين، فهل يتم تفعيلها حقًا؟ وإن فُعّلت، فهل تُفعّل بما يليق بهوية كل مجتمع؟ أم أنها قوانين هلامية، نُمسكها فإذا بها تتبخر بين أيدينا، وتُترك للتخبط، تُطبّق حينًا، وتُهمل أحيانًا، بحسب الأهواء والمصالح؟
لسنا بحاجة لمزيد من النظريات، ولا إلى تكرار الكلام ذاته في المؤتمرات والصحف والشاشات. لدينا مفكرون، ولدينا جامعات، ولدينا عقول لامعة، ولكن أين أثر هذه العقول؟ أين حصاد هذا الفكر؟ على الأرض، في الشارع، بين الناس؟
أنزل إلى الواقع، فأرى أصحاب المشروعات الصغيرة يئنّون من قلة الدعم، أرى المبدعين الشباب يطاردون فرصة بين الركام، أرى أصحاب المواهب يُهملون، لا لضعف إمكاناتهم، بل لأنهم لا يملكون واسطة. كيف يُصبح الفن بالتوارث؟ كيف تُصبح الموهبة حكرًا على أبناء الفنانين والموسيقيين؟ هل أصبحت الموهبة إرثًا بيولوجيًا؟
أنا لا أكتب هنا تكرارًا لما قيل، ولا انعكاسًا لما يُعرض على الشاشات، بل أكتب عن واقعٍ يوجعني، ويحتاج إلى عمل مؤسسي، إلى قوانين فاعلة، إلى رؤية تقدّر الثقافة وتحتضن الموهبة وتُنقذ الإنسان.
نحن بحاجة ماسة إلى تفعيل الثقافة، لا كزينة في المؤتمرات، بل كخطة استراتيجية شاملة تحفظ الهوية وتحرر الطاقات وتبني المستقبل. نحن بحاجة إلى أن نؤمن بأن الثقافة ليست ترفًا، بل شرط للبقاء، وجسر للتنمية، ودرع للهويّة في زمن التوحّد.
بعد أن تناولنا واقع الثقافة في مجتمعاتنا، وعلاقتها الجوهرية بالتنمية، وبعد أن شخّصنا الحال وما يعتريه من تقصيرٍ وركود، بات من الواجب أن نوجّه البوصلة نحو ما يجب أن يكون… نحو المستقبل.
علينا أن نُفعّل الخيال، لا هروبًا من الواقع، بل من أجل تغييره. أن نتصوّر، بوعي، شكل المستقبل الثقافي الذي نطمح إليه، ثم نرسم معالم الطريق للوصول إليه. فالقضية لم تعد مرتبطة بكمّ الثقافة، ولا بكثرة الكتب، ولا بعظمة الخطب والمحاضرات، بل بالفعل الميداني على الأرض.
لقد أثبتت التجربة أن كثيرًا من الجهد مع قليل من المعرفة قد يصنع أكثر مما يصنعه كثير من المعرفة مع قليل من الجهد. فالمعرفة بلا فعل تُحوِّل الثقافة إلى زينة باهتة، بينما تتحول الثقافة إلى قوّة فاعلة حين تتحوّل إلى سياسات وخطط ومشاريع.
في دولنا ومجتمعاتنا الشرق أوسطية، نحن في أمسّ الحاجة إلى أن يُصغي صانع القرار لصوت المفكر، وأن تستمع الأنظمة السياسية لصوت المثقف، لا من باب المجاملة، بل من باب الشراكة والمسؤولية. نحن بحاجة إلى أن تُبنى الثقافة على أرضية مؤسسات قوية، واضحة المعالم، مدعومة بقوانين لا غموض فيها ولا ثغرات.
ولا بأس أن نبدأ بخطوات صغيرة، شرط أن تكون ثابتة، مدروسة، متراكمة. فالتنمية الحقيقية ليست قفزات وهمية، بل بناءٌ متدرّج على أسس واضحة، لا تهتز حتى ولو تغيّر النظام السياسي. نحتاج إلى إصلاح القوانين الثقافية، ثم تفعيلها، ثم مراقبة تنفيذها بصرامة، حتى لا تتحول إلى حبر على ورق.
حين نفعل ذلك، فقط حينها، ستثمر الثقافة في الاقتصاد، وفي الاجتماع، وفي البيئة. وسنتمكن من دعم المواهب، ورعاية الابتكار، واحتضان المفكرين، وحماية التراث من الهجمات الثقافية الوافدة التي لا تعرف منّا إلا القشرة.
إننا لا نكتب من فراغ، ولا نحلم عبثًا، بل نكتب لأن فينا بقية من إيمان، وفي ضميرنا جذوة لم تنطفئ. نكتب لأننا نؤمن أن الثقافة ليست ترفًا للنخب، بل حاجة شعب، وقضية أمة، وبوابة خلاص. نكتب لأننا نرفض أن نكون ظلالًا لأممٍ أخرى، أو مجرد مستهلكين في سوق الهويات المعولمة.