دراسة نقدية للمبدعة السورية الدكتورة مرشدة جاويش/في نص للسورية سرية العثمان

#غريبٌ #في #دمي – حفريات في الإغتراب الأنطولوجي عند الشاعرة السورية المبدعة سرية العثمان
#النص:
#غريبٌ_في_دمي
أُريدُ اشْتِعالًا كُلَّما الذِّكرى عَبَرَتْ
كَنارِ عِشْقٍ، والدُّخانُ هو السِّتْرُ
وكَيْفَ أنْجو، وقدْ صارتْ مقلتايَ دَمي
وأُخْفِي جِراحي كَيْ يَظُنَّ الوَرى الصَّبْرُ
تَغَرَّبْتُ عنِّي، والحَنينُ يَلُفُّني
كَأنِّي غَريبٌ في دَمي ما لَهُ عُذْرُ
تَوَسَّدْتُ وِجْدي وارْتَجَفْتُ منَ الأسى
كَأنِّيَ طَيفٌ نامَ في حُلمِ القَدَرِ
أُريدُ احْتِراقًا كُلَّما البَيْنُ أوْقَدَني
كَنَجمِ ليلٍ في احتدامِ الهوى يَسرُ
أُعانِقُ صَمْتي كُلَّما ضاقَ بيَ المُدى
وأرْنُو لِوَجْهٍ ما انْجلى في الدُّجى فَجْرُ
تَعِبْتُ، ولكِنِّي أُقاوِمُ داخِلي
كَأنِّيَ في صَدْري جَحيمٌ لهُ سِرٌّ
فَلا تَسْأَلِينِي: (كَيْفَ حالُكَ؟) إنَّني
كَظِلٍّ على الأطْلالِ قدْ هَدَّهُ الصَّبْرُ.
سرية العثمان ٢٠٢٥/٨/٢٠
#مدخل #رؤيوي
إن الشعر الحديث يأتي كنوع من المغامرة في المجهول مغامرة في إعادة تأسيس الذات واللغة معاً
حين نقرأ نص (غريب في دمي) ندرك أننا لسنا أمام خطاب وجداني تقليدي بل نحن أمام نص يتقاطع مع الأسئلة الفلسفية الكبرى
والشعرية الحداثوية في أبهى صورها
فليست الشعرية تنميقاً لغوياً إنما هي انفتاحاً على الميتافيزيقا واستدعاء للجرح بوصفه بيت الإنسان
فمع لغة الشاعرة المبدعة لا يسع القارئ إلا أن ينهل من فيض مشبع بالغموض والفلسفة من لغة تتماوج بالرمز فهي شاعرة لا تكتب لأجل الحرف لكنها تصوغ الصور التي تنبض بالحياة الداخلية للذات وهذا النص يستدعي تحديداً قارئاً متمعن غير عابر
يدخل إليه من بوابة الرؤيا موارباً لنافذة الانطباع
لأنه نص ينهض من الشرخ الداخلي للذاتية ويتحول إلى خطابية كونية ليعيد طرح سؤال #هايدغر: ( كيف يسكن الإنسان في العالم وهو غريب عن ذاته؟)
من هنا ندخل إلى #المقدمة بين الشعر والفلسفة
فنرى أنه لا يمكن فصل نص
أ. سرية عن سياق الشعرية الحديثة التي تمزج بين الشعر والفلسفة وبين الانفعال والميتافيزيقيا
فلقد ارتبط الشعر بقدرته على الحفر في الكينونة أي لايعتمد على مجرّد الوصف وهنا في نص (غريب في دمي) نجد الذات لا تغترب عن وطنها أو أحبتها فقط لأن الشاعرة أعطت جمالية كلية في تبلور المعنى لتتخلق تصويرية ذاتوية فهي #تغترب عن دمها أي عن أعمق مستويات وجودها وهذه المفارقة الفلسفية بأن يغترب الكائن عن جوهره هي ما تمنح النص خصوصيته
إنه نص عن الاغتراب الأنطولوجي أحالته الشاعرة أبعد مايكون عن الغربة المكانية أو الاجتماعية من خلال تجسيدها المعني للحالة وفي تهيأة العنونة للمعنى العام
#فالعنوان: (غريب في دمي)
إن خضنا في تفسيره الدلالي المباشر فهو :
أن مفردة (غريب) تحيل مباشرة إلى ثيمة الاغتراب بينما في الإضافة (في دمي) تجعل الغربة متجذرة في صميم الكينونة حيث لم تعد الغربة مكانية أو اجتماعية بل أنطولوجية داخلية
أما على #المستوى الرمزي
فالدم رمز كثيف له تعددات المعنى
مثل : #الهوية -#الانتماء- #الوراثة- #والذاكرة الروحية والبيولوجية معاً
فأن يكون المرء غريباً في دمه يعني أنه غريب في جوهره وفي ذاته
أما لو عدنا إلى #المستوى الفلسفي للعنوان
فهو يقوض الانتماء البيولوجي فالدم بدل أن يكون رابطاً يغدو رحاب للغربة متقاطعاً مع فلسفة #سارتر عن (الآخرية في الذات) و(دريدا عن أثر الغياب في الحضور)
وإذا تأملنا في #المستوى النصي أيضاً نجد أن العنوان مركز إشعاع يعيد توزيع المعنى على المقاطع فكل صورة شعرية امتداد لهذا الاغتراب الدموي
إذاً عندما نتفحص أهمية العنوان
#فالعنوان يختصر البنية الرمزية للقصيدة ويضعنا كمتلقين أمام مأزق وجودي ويفتح أفقاً تأويلياً واسعاً حيث كل قراءة تكشف طبقة جديدة من الغربة المتجذرة في الدم
وبالحديث عن
#البنية #النصية بالتماهي في نص (غريب في دمي) نجدها تتسم بالتماسك الداخلي #والانفتاح الرمزي في الوقت نفسه
إذ نأخذ بعين الإعتبار قدرة الشاعرة على هذا الدفق المجازي فالنص لا يسير وفق سرد خطي تقليدي إنما يتشكل من مشاهد وجدانية متداخلة حيث كل مقطع يحيل على الآخر من خلال التكرار الرمزي واللغة الحسية إذاً هناك دائرة متكررة من الذكرى تعكس حالة النفس المتأرجحة بين الحضور والغياب وبين الألم والمقاومة هذه الدائرة لا تعني الركود
بل تكشف دينامية الصراع الداخلي للذات بحيث تصبح كل صورة وكأنها نواة مركزية تتحرك حولها باقي الصور والمعاني
كما تتسم البنية الإيقاعية بتقابل التمفصلات النصية ما يمنح النص إيقاعاً داخلياً يجعله يشبه تنفس الكائن الممزق بين ذاكرة الجرح وغربة الذات
أما بخصوص الصور الشعرية بالنص فنجد أنها تفيض بالرمزية والعمق وتتعدد مستوياتها بين وجدانية وفلسفية وصوفية
مثلاً نجد أنه
في السياق الآتي : ( أريد اشتعالاً أريد احتراقاً )
فالنار والاحتراق هنا دلالة على طقس وجودي للتحول
وكان الفناء الداخلي (صوفي)
لم يكن مجرد غضب أو ألم
أما في هذا السياق هنا :
( وقد صارت مقلتاي دمي)
إن الدم والجرح في العيون دلالة الهوية المشروخة
والغربة الأنطولوجية
والنزيف النفسي العميق
ونرى أيضاً : ( كأني طيف نام في حلم القدر)
أن هناك دلالة فضاء ميتافيزيقي هشّ بين الواقع والخيال والحضور والغياب
وبالتفاتة إلى الصمت في السياق النصي نلاحظ : (أعانق صمتي) فلقد التزمت الشاعرة بتوظيف دلالي عن لغة الأسرار الداخلية بخطابية شعرية تحمل الميتافيزيقا وذلك دعماً للمبتغى السياقي المعني
وفي الذكرى والحنين
ضمن السياق هنا : ( أريد اشتعالاً كلما الذكرى عبرت)
قد اعتمدت الناصة على دلالة الاشتغال على الماضي والأثر في تشكيل الذات لربط الحاضر بالغائب
فكل صورة واستعارة تعمل على إعادة تشكيل تجربة الذات أمام المتلقي بحيث يتولد إحساس بالغربة والاغتراب في جوهر اللغة نفسها
ولو غصنا في #الإيقاع #والوحدة العضوية بالنص نراه يمتاز بإيقاع داخلي دقيق يسهم في بناء الوحدة العضوية الكلية للنص بحيث لا تشكل المقاطع المنفصلة مجرد جمل شعرية متقطعة بل تترابط جميعها ضمن شبكة من التكرارات الرمزية والصور المتناغمة وإن انغمار الإيقاع في النص لم يكن إيقاعاً موسيقياً صرفاً لأن الشاعرة لها القصدية الكلية لرفع هيولى المعنى بإحالته إلى إيقاع وجداني وفلسفي ينبع من تكرار الفعل الشعوري (أريد أريد) ومن تنقل الذات وفق تمفصلات المعنى المفرداتي
وهذه الحركة الدائرية تخلق شعوراً بالتوازي بين #الداخل النفسي للذات #والأفق الرمزي للنص فيتولد إحساس بالتماسك العضوي حيث كل صورة تدعم الأخرى وتؤسس لحالة وجدانية واحدة متسقة
ونجد أن الوحدة العضوية للنص تتضح أيضاً بقوة في تقاطع الثيمات الأساسية
فهي تتقاطع مع الصور الشعرية والبنية النصية والإيقاع ما يجعل النص ليس مجرد تجميع لمشاهد شعرية منفصلة لكنه نصاً متكاملاً يعكس صراع الذات مع جوهرها ويجعل من اللغة أداة للوجود والتأمل
فالإيقاع الداخلي إذاً يعمل كعمود فقري جامع في النص ليؤسس للوحدة العضوية التي تمنح النص توازنه الجمالي والفلسفي على حد سواء
وإذا فكرنا ملياً في البعد العام نجد أن النص يشمل تجربة الغربة الأنطولوجية للذات مع الصراع الداخلي فلا نراه مجرد تعبير وجداني لكنه تكاملية شعرية تعكس صراع الإنسان مع جوهره ومع ذكرياته ومع العالم المحيط به
ونلمس البنية الشعرية فيها تلك الجدلية بين النار والجرح كما في :
(أريد اشتعالاً أريد احتراقاً)
فالنار لم تكن عقاباً بقدر معناها الوجودي للتطهير بطقس صوفي يرمز إلى الفناء في المحبوب
ونتبين من خلال ذلك
الجرح والذاكرة
(وقد صارت مقلتاي دمي)
فالجرح يتماهى مع الدم والعين والذاكرة تتحولان إلى نزيف دائم في تقاطع مع (نظرية الأثر) / (لدريدا)
ما يتمظهر دوماً بغياب
ونكتشف أيضاً أن الغربة مزدوجة (تغرّبت عني) فالغربة كانت عن الذات نفسها بذاك الانشطار الداخلي الذي عكس تصور (هايدغر) للإنسان ككائن (مُلقى) بلا مرساة
و ( أعانق صمتي ) فالصمت هنا كخطابية لأن الصمت لغة مضادة حيث الألم يتحول إلى خطاب ميتافيزيقي
ونجد إن الإيقاع كصدى للوجود
وذلك من خلال التكرار (أريد / أريد) ليعكس دائرة القلق واللاخلاص والإيقاع ويعكس اهتزاز الكيان الداخلي
وسأنوه وفق رؤيتي للقصيدة عن التناصات النصية والفكرية ومقاربتها
نجد في الشعر العربي الحديث: ( السياب ) قد لازمت الناصة من خلال ذلك في (الغربة الخارجية)
ومن خلال محمود درويش) تبدّت في (الحنين كجرح داخلي)
ومن التراث الصوفي نرى ذلك في (الحلاج) توضح في (الاحتراق للوصول إلى الاتحاد)
ومن إبن الفارض نراه قد تبين في (النار رمز العشق المطهر)
ومن المأساة الإغريقية فإن الغربة لدى الشاعرة كقدر محتوم لا مهرب منه كما في (أوديب)
وأيضاً لو استشفينا جدلية الحضور والغياب
فإننا نلمح الحضور الممزق في العيون والذكرى والمقاومة الداخلية لكنه كان حضور مشروخ لم يكتمل
مع الغياب المهيمن
ومن خلال قراءة النص نستشعر أن الغياب يشكل السلطة النصية
ونستنج الجدل بينهما: فالحضور يتأسس على الغياب والغياب يتجلى عبر الحضور في خط توازي مع فلسفة (دريدا ) عن التأجيل المستمر للمعنى
وأيضاً نستخلص من كينونة القصيدة البعد الصوفي
وذلك من خلال النار كأفق صوفي والاحتراق شرط للفناء في الذات
والصمت لغة العارف لأن الصمت يحمل الأسرار التي تضيق عنها اللغة
#وأما الطيف والحلم
فهو رحاب للرؤى الباطنية ووجود هش بين الحلم واليقظة
وعن المقاومة الداخلية
جهاد النفس ومعركة الوجود مع الذات
من خلال كل ذلك نجد أن النص يعيد إنتاج الرموز الصوفية ضمن رؤية حداثية وجودية
ويطرح سؤالاً عدمياً: ما الجدوى من المقاومة إذا كان الجحيم داخلي؟
(تعبت- ولكني أقاوم داخلي)
أي إنها مقاومة شبيهة بمصير (سيزيف ) لكنها تفتح أفقاً ميتافيزيقياً عبر الطيف والحلم كما في ( كأني طيف نام في حلم القدر)
فالوجود هنا هش وطيفي ومؤجل يتأرجح بين الفناء والوجود
إن نص ( غريب في دمي) يثبت أن الشعر الحديث قادر على أن يكون فضاء للفلسفة والروح معاً
من خلال العنوان المزلزل والصور في عمق السياق مما يدعنا نقف أمام مأزق أنطولوجي يتجاوز التجربة الفردية إلى أفق كوني
ولا يسعنا إلا أن نثني على لغة أ.سرية المشبّعة بالغموض والفلسفة
لغة تجعل الصور الشعرية تنبض بالحياة الداخلية للذات وتحوّل النص إلى أفقه الوجداني والفلسفي المتكامل
الشاعرة عودتنا على نصوصها المغايرة التي تعكس علو مكانتها في الشعر المعاصر
سرية العثمان لا تكتب شعراً وجدانياً في نصها هذا إنا أخذته إلى ميتافيزيقا شعرية تجعل من الغربة بيت الإنسان ومن الدم مسرحاً للاغتراب إنها قصيدة تكشف أن الغربة ليست خارجنا بل في صميم دمنا وفي عيننا وفي صمتنا وأن الشعر هو بيت الكينونة ومأوى الجرح ولغة لكل مالايقال
أستاذة سرية العثمان شاعرة ونيف
انجاز : #مرشدة #جاويش