“المشهد الثقافي بين الضمير المتصل والضمير المستتر”.. بقلم : سابرينا عشوش

مقال/
“المشهد الثقافي بين الضمير
المتصل والضمير المستتر”
لقد آلَ المشهد الثقافي في زمننا إلى صورةٍ مُشوَّهة من ذاته؛ صورةٍ تفقد ملامحها كلما ازدادت الشاشات توهُّجاً والواجهات لمعاناً. لم يعد المثقف مثقفاً بمقدار ما يحمل من عمقٍ معرفي ومسؤولية أخلاقية تجاه الكلمة، بل صار اللقب يُمنَح كما تُمنَح شارةٌ في سوقٍ صاخبٍ للنخاسة الفكرية؛ يكفي أن تفتح حساباً وتكتب سطوراً فارغة مُزيَّنة برؤوس أقلام باهتة، ثم تحصد الإعجاب والتهليل.
في زمنٍ كهذا، انقلبت المعايير: لم يعد المقياس جودة النص، ولا نُبل الفكرة، ولا جِدّة الإضافة، بل صار المقياس عدد طلبات القبول و”الصداقات”، وعدد التعليقات التي تُشبع غرور الكاتب لا التي تُنقّي نصّه. صار البعض يظنّ أنّ الفكر سلعة استهلاكية، تُروَّج كالموضة، بلا جذرٍ ولا التزام.
والمفارقة الأشدّ مرارة أنّ الساحة التي يُفترض أن تكون موئلاً للذائقة والجمال تحوّلت إلى مسرح للسباب، والشتائم، والاتهامات. يُستَعمل الدليل لا لرفع قيمة الحُجّة، بل للطعن والقذف وتلويث سمعة الآخر. صارت الثقافة تُستَعمل كقناعٍ يُخفي هشاشة الروح، بدلاً من أن تكون مرآةً تُظهر سموّها.
أي ضميرٍ ثقافي هذا الذي لا ينظّف متصفّحه من الغثاء؟ أي ضميرٍ متصل هذا الذي لا يسأل نفسه: ما الذي أضيفه حقاً؟ هل أكتب لأرتقي وأُرقي، أم أكتب لأُحصي المتابعين وأتسابق على فتات الشهرة؟
إنّ الثقافة ليست باباً مفتوحاً لكلّ من هبّ ودبّ، وليست قميصاً يُلبَس للتباهي أمام الآخرين. الثقافة التزامٌ أخلاقي قبل أن تكون ملكةً فكرية، مسؤولية تجاه المعنى قبل أن تكون رغبةً في الظهور. والضمير المتصل ــ ذاك الذي يرافق القلم والفكر ــ هو الميزان الحقيقي: به نعرف إن كنّا نكتب لنحيا بكرامة ونرفع الإنسان، أم نكتب لنُباع في أسواق الافتراء والنرجسية الرخيصة.
إنّ استعادة المشهد الثقافي تبدأ من سؤالٍ بسيط لكن عميق:
هل ما نكتبه يُضيف للحياة معنى، أم أنّه مجرّد ضجيج يضاف إلى ضجيج؟
وإن كان الضمير المتصل قد صار مقياساً هشّاً لسطحية المشهد، فإنّ الضمير المستتر بات أكثر خطراً، لأنه لا يُرى، لكنه يقود السلوك من وراء ستار. هو الضمير الذي يختبئ حين يمدّ أحدهم يده ليسرق الحرف، أو يسطو على فكر غيره، أو يبيع نفسه في مزادٍ رخيص على حساب الأمانة الأدبية والملكية الفكرية.
كيف صار القلم ـ الذي وُلد ليكون عهدَ صدق ـ أداةً للغش والخيانة؟
وكيف صار الشعر ـ الذي يُفترض أن يكون طُهر الروح وبهاء الكلمة ـ مجالاً للفوضى، يقتحمه أشباه الشعراء بلا مروءة ولا خشية، يسرقون الحروف كما يسرق اللص خبز اليتيم؟
لقد قلنا هذا كلّه ـ لا تبجّحاً ولا تطاوُلاً ـ بل خشيةً من الله أولاً، ثم خوفاً على العباد أن يُطمر وعيهم في ركام الزيف. فأين الكرامة إذا استحللنا خيانة الكلمة؟ وأين خشيتنا من الله إذا لم نتقِهِ في ما نكتب وننشر؟
نخطئ، نعم. فكلّ ابن آدم خطّاء. لكن الفرق بين المثقف الحقّ وأشباهه أنّ الأول يتعلّم من خطئه، يربّي نفسه على الصدق، ويطرق باب التوبة كلما زلّت قدماه، أما الثاني فيُكابر، ويُعيد إنتاج الخطيئة حتى تصير عادةً تقتل ضميره المستتر وتُميت صوته الداخلي.
أما عن الإيمان، فأي إيمانٍ هذا الذي لا يُغيّر أسوأ ما فينا؟ إن لم نُطهِّر قلوبنا من الغش، وأقلامنا من الخيانة، وألسنتنا من القذف والافتراء، فكيف سنعلّم أبناءنا معنى الطهر، ومعنى الحرية، ومعنى الكرامة؟
إنّ جيل الغد ليس بحاجة إلى مزيدٍ من الشعراء المصطنعين، بل إلى قدوةٍ صادقة تجعل من الكلمة رسالة، ومن القلم أمانة، ومن الله رقيباً لا يغفل ولا ينام.
سابرينا عشوش
@à la une