تنويعات على مسار الأزمنة…د.أحمد عبداللاه

تنويعات على مسار الأزمنة
كان السُهد يتسلل من مفردات القيرواني في صوت فيروز: “ياليل الصبّ متى غده”، أو يستميله شاعر عاشق كأحمد رامي بشجونه التي تنثرها كوكب الشرق بصوتها الأسطوري فوق المساءات النقيّة العذبة. وكأن الألحان تنبعث من جوف الجدران العتيقة حين يبث المذياع من خلف النوافذ أسرار النغم ونجواه إلى المارّة فوق الأزقة الترابية.
ظلت أجواء المساءات مفعمة بالرومانسية والعاطفة، حتى بدت خالية من هواجس سلمى: “أن يأتي الدجى الجاني ولا تأتي النجوم”، مثلما صورها إيليا أبو ماضي، ومغايرة لمساءات الصبابة والجوى التي عاشها شاعر القطرين خليل مطران. بل هي أقرب إلى إيقاع التكرار الموسيقي كما أبدعه لسان الدين ابن الخطيب، ذاك الذي قضى لياليه غارقًا في أسرار الهوى، حتى تبددها طلائعُ الصباح.
بسيطاً، هادئاً، مرَّ “الزمنُ القديم” رغم الشعارات الغليظة. و فيه أشرق عُمر الصبا يرافقه ميلاد الحياة الجديدة. وشهد المجتمع توجهات (المرحلة) مع تمدُّد ظلال (الفكر الاشتراكي) وازدهار الثقافة اليسارية ونجومية الشعراء الشباب وفتُوّات الأيديولوجيا. والأخيرة بالتأكيد لا تشبه فتوات “اولاد حارتنا” أو “الحرافيش” وهم “يتبخترون” على صفحات العم نجيب محفوظ.
لم يلبث عهد ذلك الزمان طويلاً حتى تسارعت الأحداث وتدحرج العقل في منعرجات الحياة. احترقت الشعارات وتبددت معها قناعات راسخة. وشهدت المنطقة انجراف (تكتوني) هائل للثقافة الوطنية واليسارية والقومية. وفجأة ذهب “الهوى والشباب والأمل المنشود” ورحل الأخطل الصغير ومعه زمن الرومانسية، ولكن على نحو لا يشبه انطفاء تراث الأخطل التغلبي في ذاكرة القرون.
ماذا بعد؟
أتى زمن وُضِعَ فيه رأس التاريخ عند قدميه واستدار دراماتيكياً حتى برز (أنتيخريستوس) بهيئة السامريّ قبل المواجهة المؤجلة مع موسى، كما جدولها الروائي أحمد خالد.
ظهر (جوربي) وهدم إمبراطوريته بكلتا يديه وأسقط معها المنظومة الاشتراكية ليخلفه ظِلُ (يلتسن) الذي حوّط أركان الكرملين بـعتمة الغباء الشديد.
كانت تلك واحدة من أعتى فلتات التاريخ الحديث.
تفردت بعدها أمريكا بعالم وحيد القرن وتوسعت “إسرائيل”. وفي المنطقة العربية دقت بقوة ساعة “الإسلام السياسي”، كما يلقبونه، وانتعشت الدعوة الوهابية و برز “الولائيون” العرب، منتجين معاً مجموعات أصولية هزت أركان المنطقة. ثم وُضعت “المسألة الشرقية” مجدداً على طاولة الغرب.
كانت قناة الجزيرة قد حضرت بقوة تعلّم العرب الرأي الآخر. وبعد فترة من التسخين الإعلامي واستغلال حاجة الناس للتغيير، لقّنتهم دروساً إضافية في “ثورات الربيع”. وعلى شاشتها تَناوبَ فقيه يفتي في السياسة والتغيير، و فيلسوف (راكاحي) فرَّ من “غرفة الكنيست” يكمل (تنظيرياً) ما لم يقله صاحبه.
وقتها وُضعَ المشاهد لأول مرة أمام توليفة النقيضين على الهواء مباشرة، وكأنه يرى إبن تيمية وإبن رشد على طاولة واحدة، يتشاركان تكشيرة إيديولوجية، لا تستقيم مع اختلاف ثقافتهما إلا بما يخدم نزعة الخيزران العصرية، وهي تعدّ (رشيدها) الصغير للخلافة.
ومنذ ذلك الحين أصبح فقه “التمكين” حاضراً بقوة، يبرر الفوضى الجيوسياسية ومنفتحاً على مبدأ نيكولو مكيافيلي حتى لو تطلب الأمر تجهيز ما يكفي من الأرض لإقامة قواعد عسكرية أجنبية. باعتبار ذلك وسيلة حماية تخدم “عرش الخلافة”.
في نهاية المطاف، ينأى الشرق العربي بنفسه عن هويته القومية، ساعياً وراء مظلات إقليمية ودولية تحميه، بينما تتقاذفه أسئلة وجودية عميقة، وتُفصّله الأسلاك الشائكة إلى كتلٍ متفرقة بلا وجهة واضحة ولا إدراك إلى أين المسير.
ثم ماذا؟
يتوارى قمر الأعمار بعيداً عن قلب السماء، و صوت فيروز يغيب عن ليل القيرواني، فيما “الست” تنسى هذه المرة غفاة البشر وراء الجدران الصماء.
اللغة بدورها تكاد تعجز عن حمل أعباء التغييرات في رحلة الزمن، حتى أن المجاز لم يعد آمناً في حِمى الشعر الجاهلي، ولم يعد العربي بحاجة إلى حِكَم وفلسفة المتنبي أو روميات أبي فراس ونجواه الحزينة من سجن (خرشنة). بل إن البعض – على سبيل المتاهة – قد سبق و استبدل علوم وشعر النيسابوري عمر الخيّام بدعوة شيخ الجبل حسن الصباح، في رحلة قد تبدو وكأنها فرار نحو المجهول.
احمد عبد اللاه