قراءة للأستاذ الشاعر والناقد مراد اللحياني في قصيدة ” صُورٌ وذَاكرة” للشاعرة سعيدة جادور

“رحلة الظلال والذاكرة والبكاء
قراءة عاشقة في قصيدة ” صُورٌ وذَاكرة” للشاعرة سعيدة جادور
بقلم: الأستاذ الشاعر والناقد
مراد اللحياني
في نص الشاعرة سعيدة، تبدأ الرحلة الشعرية من عتبة “صُورٌ وذَاكرة”، فتتحرك الذاكرة بوصفها عالمًا حيًّا، ليس مجرد استدعاء للأحداث الماضية، بل فضاءً ممتدًا يمكن للروح أن تعيشه وتعيد تشكيله. هذه البداية المفتوحة تخلق حالة من الانسياب بين اللحظة الراهنة وما يطفو من بقايا الذكريات، بحيث تصبح كل صورة في النص ككائن حي ينبض بالحركة، وكل كلمة بوابة لمكان داخلي لم يكتشف بعد. القارئ يجد نفسه في مواجهة شعورية تتقاطع فيها الرؤية بالغياب، حيث الصور لا تُعطى كحقائق ثابتة بل كأطياف تحتاج إلى إدراك وحنين وارتجاف داخلي.
الأسطر التالية “وعندما تُدرك أنّك ترى تختفي الظّلال المُباحة” تأخذنا إلى الفعل الشعوري المعقد الذي يشكّل رؤية النص، حيث الإدراك نفسه يخلق الفراغ الذي كان ممتلئًا بالظلال. الظلال ليست مجرد نقص في الضوء، بل رمزية لكل ما هو ممكن، لكل ما هو مألوف ومتاح ويغدو في لحظة الإدراك عاجزًا عن البقاء. هنا، الشاعرة تجعل القارئ يعيش صراع الوعي: محاولة الإمساك بالمجهول، التوتر بين ما نراه وما يختفي، بين الرغبة في السيطرة على المعنى والانصياع لتلاشيه، وهو توتر شعوري يشعل النص كله ويمنحه زخماً وجودياً.
ثم يتحرك النص إلى استعارة الريح: “ليس للرّياح أجنحة، أنت من تهب لها الريش لتطير بك إلى الصيغ المقترحة”. الريح هنا ليست مجرد عنصر طبيعي، بل فعل شعري حيّ، قدرة على الحركة والتغيير، على تحويل الجمود إلى طاقة، وعلى تجاوز الذات إلى فضاء جديد من الإبداع. القارئ يرى في هذا التصوير نوعًا من الخلق الشعوري، حيث الطيران ليس مجازًا للحركة الجسدية فحسب، بل رمزًا لتحليق الروح، لطيران الفكر، ولقدرة الشاعر على إنشاء فضاءات متسعة من خلال الكلمات. النص يدعو القارئ ليصبح جزءًا من هذا الطقس، ليهبه الريش ويطير معه بين الصيغ المقترحة، بين الممكن والمستحيل، بين الواقع والحلم، في لعبة شعورية متقنة.
في بعد آخر، يشتد النص ويغوص في العلاقة بالآخر، في حضور الجرح والتأثير: “يامن ترتجف الجُدران أمام روحه ويبتسم من جراحه المفتوحة للحروب”. هنا، الجرح لا يُقدّم كألم فقط، بل ككائن شعوري له كيان مستقل، يختلط مع الفرح والامتداد الروحي. الابتسامة على الجرح تعكس قدرة النص على تجسيد المأساة والجمال معًا، حيث تصبح الحرب والجرح والابتسامة مظاهر متكاملة للوجود الشعوري، وتخلق نصًا يتنفس كل تجربة داخلية بأبعادها الرمزية والصوفية. القارئ يجد نفسه أمام حقل عاطفي متشعب، حيث الانكسار يولد حضورًا، والفراغ يولد معنى، والرحمة والمأساة تتشابكان في نسيج واحد متسق ومتحرك.
الرمزية تتجلى أكثر في شبه الليل: “ياشبيه الليل، صلاتك غامضة”. شبه الليل هنا ليس مجرد استعارة للظلام، بل حالة وجدانية عميقة، حيث يصبح الليل مساحة للغموض الداخلي، والصمت امتدادًا للوعي، والغياب مساحة للحضور. في هذه الصورة، الشاعرة تمنح القارئ شعورًا بالانزياح بين ما هو محسوس وما هو غير ملموس، بين الظل والضوء، بين الحضور والغياب، فتخلق حالة شعورية متكاملة، تجعل النص تجربة انسيابية مستمرة، تتنفس وتتحرك بلا توقف.
ثم يصل النص إلى ذروته في البكاء: “لا صوت لك ولا مساحة غير بكاء تشرب منه دموعك المالحة”. الدموع المالحة ليست مجرد عنصر حسي، بل فعل شعري كامل، طقس صوفي يحوّل الألم إلى حضور حيّ. إنها تعبير عن التلاشي والامتداد في الوقت نفسه، عن قدرة الروح على أن تصبح مساحة للحزن والجمال معًا. كل دمعة في النص هي كيان مستقل، تحمل معنى، وتغذي الانسياب الشعوري للنص، ليصبح البكاء فعلًا شعريًا يخلق تواصلاً عميقًا بين النص والقارئ.
كل النص يعمل كمنسك شعري متكامل، حيث تتنفس الصور بين الطبيعة الداخلية والرمزية الصوفية، بين الجرح والحب، بين الظل والضوء. اللغة مركّزة، لكنها تمنح القارئ مساحة للانغماس العميق في كل كلمة، لتصبح القراءة تجربة مزلزلة ممتدة بلا حدود، رحلة شعورية وفلسفية متكاملة، تأخذ القارئ في طقس شعري طويل، حيث كل حرف وكل جرح وكل ظل وكل دمعة يحمل طاقة تحرك الروح، وتترك أثرًا يمتد بعد لحظة القراءة.
النص ليس مجرد قصيدة نثر؛ إنه تجربة شعورية كاملة، منسك شعري يمكن أن يستمر في التأثير على القارئ، رحلة تتقاطع فيها الرؤية بالغياب، والتجربة بالرمز، والحساسية بالعاطفة، والفقد بالامتداد، لتخلق نصًا حيًا، نابضًا، ومزلزلاً في عمقه الشعوري.
نص الشاعرة سعيدة جادور
صُورٌ وذَاكرة
وعندما تُدرك أنّك ترى
تَختفي الظّلال المُباحة
ليس للرّياح أجنحة
أنت من تهب لها الريش
لِتطيرَ بك إلى الصّيغ المُقترَحة
يامن تَرتجفُ الجُدران
أمام رُوحه
ويَبتسمُ من جِراحه
المفتُوحة للحُروب
ياشَبيهَ اللّيل
صلاتُك غَامضة
لا صوتَ لك ولا مِساحة
غيرَ بكاء تشربُ
منه دُموعَك المَالحة …