رؤي ومقالات

السفيره أمل مراد تكتب : قبول مصر فلسطينيين من غزة

قبول مصر فلسطينيين من غزة ربما يمثل بالفعل تحديا أمنيا داخليا لصعوبة استيعاب بشر أُكرهوا على ترك أراضيهم. كما أنه قد يمثل تحدياً لاستقرار اتفاقية السلام مع إسرائيل لسعيهم الطبيعي للعودة إلى أرضهم بأية وسيلة، ولكن هذا من وجهة نظري الشخصية -بالذات بالنسبة لمصر على خلاف وضع الأردن- لا يزيد عن كونه قمة جبل الثلج الذي يمثله تحدي التهجير للأمن القومي المصري، سواء كان تهجيراً إلى مصر أو إلى أي مكان آخر.
وجبل الثلج المقصود طبعاً هو ما يعنيه ما وصلت إليه فكرة التهجير من جدية حول انفلات مشروع “الهيمنة الإسرائيلية” على المنطقة من عقاله، ليمثل تحدياً لأي قوة إقليمية أخرى، وتهديداً مباشراً بالنسبة لمصر ومكانتها، بما فيها طموحات شرق المتوسط وتطوير منطقة القناة والبحر الأحمر.
تعبير “الهيمنة” تعبير محدد، مش كلام “حنجوري”، ويطلق على سياسة أي دولة ترغب وتقدر (يعني الرغبة وحدها لا تكفي) على تشكيل محيطها الخارجي بالجبر أساساً (مش بالاتفاق) ليلائم رؤيتها ومصالحها هي وحدها. والمشروع الإسرائيلي للهيمنة هو محاولة -ذات مصداقية ولكنها لم تكتمل- لفرض توسعها كدولة يهودية على كل أرض فلسطين التاريخية بالعافية وبالمخالفة لأي شرعية وفي نفس الوقت التمدد كقوة إقليمية لحصد مكاسب استرتيجية واقتصادية على حساب جيرانها من أعداء ومنافسين دون تفرقة.
تهجير الشعب الفلسطيني ركن أساسي من أركان هذا المشروع، خاصة منذ سيطرة أكثر صيغ الصهيونية عدوانية وتوسعية على المجتمع الإسرائيلي تحت قيادة شارون ثم نتنياهو، وده كان واضح ومعروف للجميع، ومصر والأردن كانتا تعملان دوماً على التعامل معه بالاحتواء. وليس هنا مجال تقييم حكمة هذا التقدير من عدمه.
أما “انفلات هذا المشروع من عقاله” وتحوله إلى تهديد جدي يصعب احتوائه، فيرجع -في رأي – إلى نهايات فترة حكم أوباما الثانية، حين نجحت إسرائيل في إحباط مسعى أوباما تحقيق تقدم في الملف الفلسطيني، وتحدته فيما يتعلق بالتغيير الديمقراطي في العالم العربي وتغيير العلاقة الأمريكية مع إيران من خلال الاتفاق حول الملف النووي. هذا التغلب على رئيس الولايات المتحدة متبوعاً بوصول دونالد ترامب للمرة الأولى للحكم بوعود الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، مثل نقلة نوعية في طموح (أو جموح) إسرائيل.
وفي تقديري الشخصي، أن دولا عربية -أحسب أن من بينها مصر- كانت تعي خطورة ما يحدث على أمنها واستقرار المنطقة، ولكنها تأخرت في التخطيط لتبديل سياسة الاحتواء بسياسة التصدي لاعتبارات كثيرة، في حين ظنت دولاً عربية أخرى أن من مصلحتها الرهان على الحصان الرابح، فشاركت في الاتفاقات الإبراهيمية، وتجاوبت مع فكرة الناتو الشرق أوسطي، وبدا وكأن المملكة العربية السعودية تذهب في نفس الاتجاه بقرب الاتفاق على التطبيع مع إسرائيل.
لم يكن طوفان الأقصى إذن سبباً في جموح إسرائيل، بل كان رد فعل على جموحها ومحاولة لوقفه بالتذكير بمحورية قضية الشعب الفلسطيني وقدرته على إفساد الترتيبات التي تتجاهله ولو بتكلفة مرتفعة.
ولكن لأن الحظ يحالف المستعد، تمكنت إسرائيل من تحويل لطمة طوفان الأقصى إلى مبرر للمضي قدماً في تنفيذ مشروعها للهيمنة بقوة السلاح، فوجهت الضربات لأعدائها، وعلى رأسهم الشعب الفلسطيني في القطاع والضفة، ومن “تورط” في دعمه في لبنان والعراق وسوريا واليمن وإيران، وهددت جيرانها لردعهم عن التدخل لحمايتهم بأي شكل، واعتمدت على دعم غير مباشر ممن يرون أنها حليفتهم في حرب على الإرهاب أو إيران.
كما استخدمت الحرب لتحويل مشروع تهجير سكان غزة من هدف متدرج طويل المدى إلى واقع ضاغط وطرح تتم مناقشته في الأروقة الدبلوماسية. والفصل الراهن الذي يقترح فيه الرئيس الأمريكي تعاون مصر والأردن في تحقيق ما هو هدف إسرائيلي معروف ومرفوض هو التعريف الحرفي لممارسة “الهيمنة”.
وإن كان التحرك المصري مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بدا وأنه أجهض أولى محاولات التهجير تحت القصف في بداية الحرب، وصمود الشعب الفلسطيني في غزة وعودته إلى الشمال المهدم في مشهد أسطوري بعد وقف إطلاق النار تحداه تحدياً كبيراً، فالطريق أمام إحباط مخطط التهجير كجزء من مشروع متكامل للهيمنة ما زال طويلاً. فالتدمير الممنهج للقطاع، الذي لم ننجح في منعه أو إيقافه، أسس لمرحة ممتدة من الضغط في إتجاه التهجير من غزة لصعوبة الحياة في القطاع لمدة طويلة. ووصول أكثر إدارة يمينية وجسارة وارتباطاً باليمين الإسرائيلي للحكم في الولايات المتحدة، يعني أن ما تورعت إدارة بايدن عن مطالبة مصر به، لا ترى الإدارة الجديدة غضاضة في إعادة طرحه والمساومة به.
هل يعني هذا أننا في خيار بين الاستسلام لمشروع توفرت الظروف الموضوعية لانتصاره أو الاستعداد لمواجهة كاملة معه في ظل ظروف غير مواتية؟
ليس لدي إجابة قاطعة على هذا السؤال، ولكني أراهن على إمكان الصمود في مواجهة تهديد الهيمنة الجارف دون الدخول في مواجهة شاملة لسنا في وضع يسمح بها.
قد يساعدنا في ذلك، ما دفعته إسرائيل من أثمان باهظة للوصول لتلك النقطة، من قوتها العسكرية والاقتصادية، ومن سمعتها الدولية ووضعها القانوني والأخلاقي، ومن تماسكها الداخلي وكفاءة نظامها السياسي (وإن كان هذا الثمن الباهظ هو الذي يجعل توقفها عند هذا الحد فقط مشكوك فيه، لرغبتها في حصاد نصر فارق لم يتحقق بعد). كما أن تغولها أثار حفيظة كل القوى الإقليمية العربية وغير العربية على حد سواء ويفتح المجال لتحركات وازنة لمشروعها.
وأركان الصمود الذي أتصوره هي:
– دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة في صموده على أرضه بكل الوسائل المتاحة، فهي لحظة تتوافق فيها المصالح الوطنية المباشرة مع القيم والقانون؛
-بناء التحالفات الدولية الداعمة لحقوقه المشروعة غير منقوصة، استفادة من توفر إرادة واسعة لحماية القانون الدولي ضد الهجمة الأمريكية على كل الجبهات؛
-المساهمة في وضع إسرائيل وقيادتها السياسية الراهنة تحت ضغط بسبب انتهاكاتها للقانون الدولي، واختيار السياسات المثلى للتعامل مع الداخل الإسرائيلي الذي يمر بموجات غير معروف إلى أين يمكن أن تتجه إن لم تصمد حكومة نتنياهو؛
-مقاومة الإنزلاق في زحليقة التسويات الكبرى المتعجلة، في ظل ظروف غير مواتية سعيا وراء سراب الاحتواء؛
-ترميم الجبهة الداخلية وإعدادها لفترة ضاغطة؛
-بناء التفاهمات/التحالفات الإقليمية الضرورية عربية وغير عربية لموازنة التغول الإسرائيلي في المدى المتوسط؛
ليس هذ خياراً سهلاً ولا حاسماً وسينطوي على تكلفة مرتفعة، فكما يكافئ الحظ المستعد يعاقب التاريخ المتأخر في استيعاب تحولاته. ولكنه الخيار الوحيد الذي يمكن أن يغير إتجاه الأحداث في المدى الأطول ويحافظ على استقلال القرار المصري وإيقاف عملية إعادة تشكيل المنطقة لصالح إسرائيل وعلى حساب مصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى