رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : الحنين الى مخلوقات علي الوردي

كان عالم الاجتماع العراقي علي الوردي قد بحث في ظاهرة ازدواج الشخصية الناتجة حسب رأيه بين قيم البداوة و قيم المدنية والصراع بينهما يؤدي الى شخصية مزدوجة لان الفرد يكون بدويا في سلوك وحضريا في آخر وهذا الصراع يخلق تعدد الشخصيات وبكلام أوضح: شخصيتين.
لكن مخلوقات علي الوردي المزدوجة الشخصية على فرض ان الثنائية صحيحة لم تعد موجودة بل كانت شبه طبيعية في مجتمع ينتقل من بداوة الى تحضر أو تمدن وهو ما يعرف بعلم النفس بالتنافر المعرفي cognitive dissonance وهو الايمان بشيء وفعل عكسه او التفكير يناقض الفعل والصراع بين شعورين وفكرتين متناقضتين أو أكثر يولد اضطرابات نفسية وعلى الأرجح حاول الوردي تفسير تناقضات الشخصية على أساس هذا الصراع.
انقرضت ثنائية علي الوردي ولم تعد قائمة بل صارت الشخصية تحت ظروف معقدة ومركبة تعيش بمئات الشخصيات في وقت واحد وتتنقل بينهما كما تتنقل في غرف المنزل بلا توعك بل بسلاسة وتلقائية في لحظة واحدة، وهذا التعدد حسب من تلتقي بهم ولكل واحد لغة وقيم ومع الوقت تنحفر هذه الشخصيات داخل الفرد ويصبح” مؤسسة شخصيات” أو التعبير العراقي ” لاعب فرارات” لا تعرف بأي رجل ترقص معه، فهو على سبيل المثال ثوري وطني قبل السلطة وعندما يكون فيها يظهر كنصاب ولص يسرق الاخضر واليابس والمعتقد العام انه ” تحول” من قديس أو زاهد الى حرامي مع ان الحقيقة أنه فاسد مستتر في انتظار ظروف سانحة لكي ينزع القناع.
لكن كيف تعيش مع شعب طبيعي ،لا يكذب ولا ينافق بلا وشايات ،
بلا اضطراب تعدد الشخصيات Dissociative identity disorder،
الذي يصل في حالات مئات الشخصيات في شخص واحد نتيجة تقمص
أو تماهي مع شخصيات بدافع الخوف أو الاعجاب أو للتحاشي أو البحث عن مكانة،
ولا في الصباح شخصية وفي الغداء أخرى وفي المساء يختلف عن الليل، ولكل شخصية من هذه الشخصيات قواعد حياة وسلوك ولغة تظهر حسب الظروف والاشخاص؟
كيف تتعامل مع انسان هو واحد في كل الأحوال، هو في الداخل كما هو في الخارج هو نفسه، يقول كما يفكر وبالعكس، وليس شخصا يقول عكس ما يفكر؟
كيف يمكن لشخص كان مسلحاً باليقظة والتأهب لأن غفلة تساوي حياة
في ماضيه أن يمشي في شارع في ثقافة جديدة لا يعيش مواطنه هذا التعدد في الشخصيات وهو في الداخل كما هو في الخارج؟
كيف يمكن أن تفتح بابك لا يفتحه غيرك وتحلم لحسابك الخاص كما تريد وتصادق أو ترفض من تريد، وتفكر وتؤمن كما تريد،
ولا أحد يسألك عن قناعة أو دين أو فكر أو خلفية عائلية أو مالية أو سياسية؟
قد يكون الأدب منقذا من الدهشة وساعد في الدخول السلس في هذه المجتمعات بناء لتصور مسبق،
لأننا في الأصل لم ننسجم لا مع السلطة ولا مع المجتمع بل في صراع مع الاثنين، وعشنا على الحافة مع شرائح كثيرة،
ولم يترك لنا هذا الانفصال المشروع صاحباً ولا صديقاً لأن الفردية ملغاة في مجتمع الكتلة والجماعة والنسخ والاشباه.
كل ما أنتجه هذا الانتقال الذهبي عندي هو الفرح وليس الانبهار، الانغمار وليس “الصدمة الثقافية” كما حدث مع كثيرين.
لم أسمع كذبة واحدة ولم أعش في متاهة ودوامة ولم أفسر ما لا يفسر، تشعر أنك تنمو وتشرق وتشع وتتفتح،ومن تلتقيه اليوم هو نفسه بعد سنوات، لا مراثي ولا خيبات ولا صدمات، لا يتحدث بلغة ولا يفكر بأخرى،
لا أقنعة ولا أنفاق نفسية ولا توقعات سلبية، لا تشعر بانهاك التحليل والتفسير ووضع الاحتمالات، لا يمدحك الآن ويشتمك بعد لحظات.
لكن كل هذه البهجة تخرج من انفك كالنار لو حاولت بدافع الحنين وربما السذاجة وحتى للمعرفة للعودة الى علاقات مع مخلوقات ضربت في الصميم وتحطمت ولم يبق منها غير الانقاض والهياكل
كما لو أنك خرجت من حديقة في يوم ربيعي مشرق ودخلت في منجم للفحم وتختنق بالمناورات والحيل والكذب الفوري،
وتختنق بصمت وسرية كما يختنق شخص في حمام من موقد فحم على مراحل وبلا شعور.
لم نفطن أول الأمر الى أن الخراب النفسي أفدح من الخراب الخارجي،
وأننا تركنا المجتمع يعاني من ازدواج الشخصية، لكنه اليوم يعاني من مئات الشخصيات،
بل الشخص في المحادثة الواحدة ليس هو نفسه في بدايتها ويختلف في وسطها وينقلب في آخرها على كل شيء،
حتى تشعر أنك تتحدث مع مجموعة اشخاص وليس مع فرد وانك في الحديث تطارد ارنبا في العشب،
لان الشطارة صارت مهارة والاحتيال صار ثقافة والكذب صار منهج حياة
والويل لمن يدخل بوجهه الحقيقي في هذا الحفل التنكري؟.
الغريب في الأمر ان الآخر يصاب بالعجب والدهشة أنك لا تفهم ما يقول بل لا تفهم مع من تتكلم لأنه ” مدمن” على هذا التعدد الذي صار جزءاً عضوياً في شخصياته وتعايش معها ومع لغاتها ومع تناقضاتها كما انه يفعل ذلك كل لحظة في محيط مشابه وصار تعدد الشخصيات طبيعياً وعادياً وتحولت الحياة الى حفل تنكري ، وانت ترى الامور من منظار الوضوح والنظافة مثل من دخل حفلة أقنعة بوجهه الحقيقي.
هذا المخلوق المهجن لا يرى اي تناقض في السلوك والانقلابات لأنها صارت عادية وتمارس بطريقة آلية فورية،
وينتقل من شخصية الى اخرى كما لو انه من غرفة الى غرفة،ويستبدل، حالاً، قناعاً بقناع،
ولا تعرف أنت مع من تتحدث الان؟
يُدهش هذا المخلوق لو شرحت له حقيقة وضعه وغالباً ما أسمع أحدهم يقول مستغرباً:
” لم يقل لي أحد من قبل هذا الكلام غيرك”،
بالطبع لم يسمع ولن يسمع هذا الكلام لان من في الدخان غير من هو في حديقة مشرقة،
ومن يرى بمنظار مغبر غير من يرى بعيون حقيقية نظيفة،
لانهم يستعملون ذات المعايير المشوهة ويرون صورهم في مرايا مهشمة ويعتقدون ان حدود القرية هي حدود الطبيعة على قول برناد شو ولا معايير أخرى في العالم.
من يبرر هذه العاهات بقسوة الظروف دائماً، يحاول تطبيع العاهات،
وهناك عوائل عاشت أسوأ الظروف وحافظت على كرامتها، دون الانزلاق لهذا التشظي في الشخصيات،
وتاريخ العراق وكوارثه لم يبدأ بعد الاحتلال لمن ذاكرته مبتورة.
في المنفى يبدو الوطن واضحاً من الخارج وتتهاوي الفضائل الوهمية التي تمنحها الذاكرة بدافع الحنين.
فهمت أدق عبارة عبد الرحمن منيف:
” في الوطن نكتشف المنفى، وفي المنفى نكتشف الوطن”.
عندما لا يكون الوطن آمناً وعادلاً وصديقاً يكون منفى، في حين تكون الحياة في مكان نظيف ومسالم وهادئ وطناً ولو في منفى لأن المنفى الحقيقي ليس مكاناً بل الشعور انك برغي أو تفصيل زائد وهامشي بلا مصير في عجلة ضخمة مسننة تسحقك بلا رحمة كل لحظة وتتخيل واهماً انك تعيش حياة.
انت محظوظ اليوم لو عثرت على شخص يعاني من ازدواج الشخصية بدل الوقوع في فخ او حفرة شخص عبارة عن مجمع شخصيات متنقلة يكون مجرد التعرف عليه خطيئة حسب شكسبير.
العلاقة مع انسان بلا الوضوح الآسر والجميل والطبيعي نوع من التشوه والتلوث والاختناق الصامت.
الوضوح جمال بري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى