قراءة لنص: «القيد» للشاعرة: وفاء فواز بقلم الشاعر: مراد اللحياني.

تشبهُ لحظة ترقب النجوم
هداة حرفك ناقدنا القدير Mourad Lahyani
جزيل امتناني وتقديري للقراءة الباذخة لنصي (( القيد ))
«في شبكة القيد: حرية الفراشة وصمود الروح» قراءة عاشقة لنص: «القيد» للشاعرة:
وفاء فواز
بقلم الأستاذ الشاعر والناقد:
مراد اللحياني.
في نصّ «القيد» تمتلك الكاتبة وفاء فواز قدرة استثنائية على نسج عالم شعري مدهش، عالم يختزل الصراع بين الحرية والأسير، بين الغرائز المكبوتة والوعي المدرك، بين الفعل والمقاومة، بحيث تتحوّل الكلمات إلى ضربات قلب تؤلم وتثير وتستفز. النص مفتوح على كل ما هو حسي ووجداني، لكنه في الوقت نفسه شديد الانضباط الداخلي، فهو يحرّك مشاعر القارئ بطريقة تفوق الوصف، ويخلق حالة اشتباك نفسي بين القارئ والنص، كأننا نحن أيضاً محاصرون بالقيد نفسه، ونشارك الفراشة بحثها المستميت عن الحرية.
اللغة في النص غنية ومشحونة بالرموز، كل كلمة تمثل تجربة وجدانية، وكل تركيب لغوي يحمل دفقاً من الطاقة الصوفية والمتمردة، حيث يلتقي العنف بالجمال، والصراخ بالسكوت، والاعتداء بالتحرير الذاتي. «غريبٌ هو ذلك القيد / رغم كلّ قساوته..» هي بداية تقطر صدقاً وعاطفة مكثفة، تبدأ بالإعلان عن الاغتراب والاختلاف، لتنتقل بنا نحو صراع أعمق، نحو التحدي الداخلي الذي يواجه فيه الإنسان القيد الخارجي والداخلي معًا.
هناك شاعرية متفردة في تصوير العلاقة بين الذات والقيد، بين الفراشة والصياد، بين العاطفة والعقل، بين القوة والضعف. الصورة ليست مجرد استعارة، بل هي طقس شعوري حقيقي: «أنا الفراشة التي تلاحقني ولاتعرفني / وأنتَ الصيّاد الأعمى». الفراشة رمز للروح الباحثة عن الانعتاق، بينما الصياد رمز للقوة الجبرية والوجود الخانق، لكنها هنا لا تنحني، ولا تهرب، بل تتحرّك في فضاء الانتصار الداخلي، في صيرورة مقاومة متدفقة.
النص يسطع بنبرة التحدّي والاحتجاج، لكنه لا يكتفي بالتهجم على الآخر أو تصوير العنف، بل يعيد تعريف القوة، ويكشف أن الحقيقة ليست في السلاح أو القيد أو السيطرة، بل في الصمود الداخلي، في الحرية التي تسكن ثنايا المرأة، في القدرة على مقاومة الطوفان الذي يفتك بالحياة:
«هل تعرف أين تكمن القوة؟!
ليست بسلاحكَ ولاقيدكَ .. ولا جبروتك
انها تكمنُ بين ثنايا ضفيرة امرأةٍ تصمدُ».
هنا تكتمل الرؤية الصوفية للحرية، الحرية التي تُولد من الداخل قبل أن تُفرض على الخارج، الحرية التي تصبح فعل حضور مطلق، فعل مقاومة وتجسيد للحياة في أبهى صورها.
في البناء الإيقاعي للنص، تلعب التكرارات الموسيقية والفواصل الداخلية والإيقاع الداخلي للكلمات دورًا بالغ الأهمية، فهي تمنح النص شعورًا بالتدفق الطبيعي، وكأنّه موجة تهتزّ داخل القارئ، تلامس أعماقه بلا مقاومة. الأسطر القصيرة والمتفرقة والمزدحمة بالصور تصنع حساً بالحركة الدائمة، وكأن النص نفسه قيد يتحرك داخله كل من الصرخة والسكوت، كل من الانكسار والاعتداد.
النص يفيض بالغموض الرمزي، لكنه غموض مفتوح على التأمل، يدعو القارئ لأن يشارك النص تجربته الذاتية، دون أن يُسلب منه القدرة على التفسير الشخصي، فهو في الوقت نفسه شعورٌ خام وعاطفة صافية، وتجربة حياتية محددة، ورؤيا فلسفية عن العلاقة بين الإنسان والقيود التي تعيش معه.
أهم ما يميز النص هو البنية الصوفية–الشاعرة التي تمنح الانفعال العاطفي شكلًا متأملًا، بحيث تصبح كل كلمة سحرًا، وكل صورة استدعاءً للحرية الداخلية، وكل صرخة صدى لحقيقة إنسانية خالدة. الفراشة، الصياد، الدم، الصبر، الصرخة، العين، السواد… كلها رموز تعمل في شبكة من المعاني، شبكة لا تنكسر، لكنها تُحسّس القارئ بالاهتزاز الداخلي المستمر، بالإثارة والرهبة معًا، وكأن النص يتحول إلى شعيرة صغيرة تقودنا نحو الانعتاق الذاتي، نحو فهم معنى القوة والحرية والوجود في وجه الظلم.
في العمق، يقدّم النص رسالة عاشقة للحياة، رسالة رفض لكل أشكال الإذلال والخنوع، رسالة أن الحرية ليست مجرد فكرة، بل هي فعل وصمود وإبداع مستمر، وهي القوة الحقيقية التي تمنح الإنسان سيادة على ذاته، وتفتح أمامه أفقًا من القدرة على العيش بلا خوف، بلا استسلام، بلا قيود. إنها دعوة للثورة الداخلية على كل ما هو مستبد، كل ما يقيد الروح، كل ما يخنق الأمل.
وفاء فواز في هذا النص، تمثل روح المقاومة في أبهى صورها، فهي لا تُعيد إنتاج الألم أو القيد، بل تُحوّله إلى محرّك للوعي وللانعتاق، إلى لوحة شعرية متدفقة، إلى تجربة وجدانية خالدة. كل كلمة، كل صورة، كل فجوة في النص هي شهادة على قدرة الشعر على تحويل الألم إلى جمال، والتقييد إلى حرية، والصراع إلى إدراك أعمق للوجود.
هذا النص، بكل كثافته وغموضه وإيقاعه الداخلي المذهل، هو نصّ عميق جدًّا في المقاربة الإنسانية، النص يعيّر القارئ والآخرين بصدقٍ غير معتاد، لكنه يفعل ذلك بطريقة تجعل القوة والإرادة عنوانين للوعي، ومفتاحين لفهم كيف يمكن للروح أن تصمد، وكيف يمكن للحياة أن تستمر رغم كل القيود. إنه نص شعري وفلسفي معًا، نص عاشق للحياة، نص يعلن الصمود، نص يصرخ بالحرية، نص يحلق بلا أجنحة لكنه يصل إلى السماء في كل مرة تلتقي فيها كلمات وفاء فواز مع روح القارئ.
النص :
—- (( القيد )) —–
غريبٌ هو ذلك القيد
رغم كلّ قساوتهِ ..
إلّا أنّ استحياءهُ أمام عنادي باق !
رائحةُ الحريّة أشمّها الآن
تستهويني فكرة انتظاركَ لي..
لأصرخَ .. لأستغيثَ .. لأتذللَ
خسئتَ .. خسئتَ أيّها المارق
أنا الفراشة التي تلاحقني ولاتعرفني
وأنتَ الصيّاد الأعمى
والعقلُ يزهو ويُقاتلك وتُقاتله
امتصْ كل دمي واقطعْ شراييني
تهمسُ باسمي وتلمعُ عيناكَ
السوادُ روحكَ وأنا الصبرُ الجميل
أنتَ الوجه القبيح لهذهِ الحياة ..
في كل انسان اعتقدتُ يوما أنّه انسان !!
أقرؤكَ بدهاءِ امرأةٍ حرّة ..
مشاعرك .. حقدكَ .. حتى تفاصيلك
هل تعرف أين تكمن القوة ؟!
ليست بسلاحكَ ولاقيدكَ .. ولا جبروتك
انها تكمنُ بين ثنايا ضفيرة امرأةٍ تصمدُ ..
في وجه الطوفان !
تلكَ التي تستطيع مقارعةَ السيوفِ
تلك التي تُخرسُ كل الأصوات البلهاء
وتسوّرُ جحورَ المُقل بأسوارٍ عالية
وتثبّت النظر لذلك المنظر الملهم ..
نحو الحريّة ………………..!!
وفاء فواز \ دمشق