حمزه الحسن يكتب : مديح المعتوه

اذا أصاب الوهم شخصاً يسمى المجنون، واذا أصاب جماعة يسمى عقيدة. * روبرت بيرسون، روائي.
ما الذي يجعل سلطة تقتل المعتوه الذي لا ينافسها على شيء سوى بدور تمثيلي؟ المعتوه في الشريعة الاسلامية ليس المجنون،
العته هو نقصان العقل وليس غيابه،
وقد رفع عن المعتوه التكليف الشرعي كما جاء في قول
الامام علي:
” رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب،
وعن المعتوه حتى يعقل”،
وهذه القوانين الثلاثة مطبقة في أكثر الدول ليبرالية الاسكندنافية.
أما متى يقتل المعتوه فتلك رطينة طويلة.
لم يحدث في التاريخ الاسلامي أن تم قتل المعتوه بسبب العته
أو الحماقة لأنه محرر من المسؤولية لكن من العجائب انه يقتل بسبب الحكمة والعقل والاختلاف،
أي أن العته يحرر من السلطة وهي سلطة العته الاخلاقي والسياسي المبرقع.
ولم يكن قتل المجنون أيضاً مشرّعاً في التقليد الاسلامي،
لكن الحضارة الغربية مارست كل أنواع القسوة ضد المجانين،
وكتاب ميشيل فوكو” تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”،
يكشف أساليب التعذيب البشعة في السجون وحتى الحرق،
ومعروفة حكاية سفينة الحمقى التي يجمعون فيها المرضى النفسانيين.
هذا الاهتمام والتعاطف مع المهمشين والمنفيين داخل الوطن والجسد كالسجناء والاسرى والغجر والمشردين والفارين جزء جوهري من الموقف من الحياة وهو ليس من طبيعة ثقافية فقط بل من تعاطف حقيقي.
لكن محنة المعتوه في النظام العراقي السابق لم تأخذ حيزاً في حقل الدراسات والسرد، وضاعت بين محن كثيرة وصار قتل المعتوه حدثاً عادياً،
وقد يكون متوقعاً لكن ما هي اللحظة التي يكون المعتوه قد تجاوز
دوره و”سلطته” وحان وقت قتله؟
في اللحظة التي يلعب فيها دور الرئيس أو الدكتاتور لانه يحجز الزمان والمكان والجنون المبرقع، ويقوم بحركات وأقوال واشارات مسرحية تتماهي
مع دور الرئيس في توزيع الهدايا أو في تقليد الخطاب أو المشية وكل ما يتعلق به
وقد حدثني المرحوم الدكتور علي كمال أشهر أخصائي الطب النفسي في العراق ورئيس قسم علم النفس في جامعة بغداد وهو أديب أيضاً يوما عن واحد من هؤلاء في جلسة معه في مقهى “البرازيلية” في نهاية شارع الرشيد، جسر الجمهورية.
هنا دخل المعتوه حقل المحرم والتحول الى كائن خطر في حين في عصور الخلفاء كان المعتوه مصدر مرح وبهجة للخليفة وقصة المهرجين شائعة في قصور الخلفاء الذين كانوا يقلدون الامراء والخلفاء بطرق ساخرة وهزلية
لكن في جو من الأمان والمرح.
البهلول مهرج القصر في العصر العباسي كان يسخر علناً من هارون الرشيد ومرة وجده جالساً في مقبرة فسأله هارون:
” يا بهلول ، يا مجنون، متى تعقل؟”
وكان جواب بهلول:
” يا هارون، يا مجنون، متى تعقل؟ أنا عاقل لأني عرفت القصر زائل والقبر باق وأنت عمرت القصر وبعدت عن القبر وهو مصيرنا المحتوم،
فمن العاقل؟”.
صحيح أن المهرج غير المعتوه لكنه يمثل دوره وهذا التنازل يعفيه من العقاب، لكن في النظام السابق تعرض المعتوهين للتصفية الجسدية لأن هؤلاء يمثلون دور صدام حسين ولهجته وتوزيع هدايا كما يفعل ويمشون كما يمشي بإتقان عجيب.
سلطة صدام حسين لا تسمح بالمنافسة والتقليد حتى في مُلكية الجنون،
ولا يمكن أن تتحول الى ظاهرة هزلية في نظام قائم على الخوف،
لكن المحير ما الذي يجعل هؤلاء يختارون هذا الدور دون غيره؟
شاهدت تلك الايام سيارة بيك آب تحمل معتوهاً يقلد صدام حسين ويوزع الهدايا الوهمية وخلفه يركض حشد من الكبار والصغار والهتافات في موقف يمتزج فيه الرعب بالسخرية.
هل العراقي عندما يجن يحلم بالسلطة؟ ما الذي يجذب هؤلاء للاقتراب من سلطة المعتوه؟ بلا شك ان تقمص المعتوه لدور الرئيس تأتي من نظرة المجتمع للرئيس،
فهل كان المعتوه يعبر عن رأي الجمهور الخفي؟
ليس بالضرورة ان يكون المعتوه رث الثياب ومهرجاً ومشرداً،
هناك ما يطلق عليه علماء النفس” قناع الجنون The mask of sanity” أو” العته الأخلاقي moral insanity” الذي يضعه بعض الناس على وجوههم للعمل في أدق الوظائف وممارسة كل الأدوار الاجتماعية بإتقان
والحفاظ على المظاهر دون الإكتشاف لمتانة الأقنعة،
ويضيع هؤلاء في مجتمع ضاعت الحدود فيه بين العقل والجنون وبين الرصانة وبين التهريج.
إن معتوهاً مقنّعاً مسلحاً مع أتباع من صنفه يتبنى عقيدة حارة صلبة يقود حشوداً من الغوغاء، قادر في أية لحظة على إحداث خراب لم يفعله كل مجانين التاريخ بالمعنى المرضي الطبي للجنون.
عندما تتبنى الحشود أسطورة يتحول الجنون الى عقيدة وتصاب الحشود بما يعرف بجنون الحشود ومعنى ذلك إنعدام التفكير ويسمى الولاء.
المفارقة ان المعتوه او المجنون مصدر مرح للجمهور وهو يلعب دور الرئيس أو الزعيم، لكنه مصدر قلق للسلطة،
فهل نحن أمام مقاومة ومعارضة رمزية بالاشارات والتلميحات بين السلطة والناس يديرها بلا وعي المعتوه وخلفه جمهور؟ هل هو صراع خفي؟ ومن هو المعتوه هنا؟
عند سقوط النظام في التاسع من نيسان 2003 ظهرت أغرب حالة في بغداد وهو هروب مجانين ” مستشفى الشماعية” للأمراض النفسية ، وفي فوضى نهب المؤسسات والزحام المروري عرضت قناة العربية مراسلها وائل غنيم، بعض هؤلاء المجانين مسلحين بالبنادق ينظمون المرور في ساحة التحرير ويهددون السواق بالبنادق لالتزام ” النظام”.
تلك اللحظة تذكرت قول الشاعر الفرنسي جيرار دي نرفال عندما أخرجوه من المصح النفسي صرخ بهم:
” أعيدوني الى بيت العقلاء”. أي الى المصح.
المحير أن هذه الظاهرة لم تتكرر بعد الاحتلال: لم يقم معتوه بتقمص شخصية رئيس الدولة أو الوزراء، مع أن بعض هؤلاء القادة قاموا بالدورين في وقت واحد: دور رجل السلطة ودور المعتوه من دون حاجة الى ممثل،
وفي عراق تختلط فيه الحدود والاشياء، من الصعب الفصل بين الإثنين، بين الزعيم وبين المعتوه.
هل المعتوه الجديد لم يجد في هؤلاء ما يستحق التقمص؟ أم الجميع في حفل تنكري بالأقنعة بلا وجوه حقيقية؟
مع الأسف الجنون ليس خياراً عقلياً، وإلا كان منقذاً من هذا العالم.