كتاب وشعراء

جماليات البلاغة ودوائر الإبداع في «الأجنحة المتكسرة» لجبران خليل جبران بقلم: ربا رباعي

الاردن
في «الأجنحة المتكسرة»، لا يقدّم جبران خليل جبران مجرد قصة حب مأساوية، بل يبني نصًا مركّبًا يتقاطع فيه الشعر بالنثر، والواقع بالحلم، والتاريخ بالرمز، ليخرج بعمل أدبي يحتفي بجمال اللغة كما يحتفي بجرح الروح.

بلاغة الصورة.. حين يتحول النثر إلى شعر

من أبرز ما يلفت القارئ في هذا العمل هو جمال الصور البلاغية التي تفيض بها الصفحات. جبران لا يصف الأشياء كما هي، بل كما يشعر بها؛ فالوصف عنده ليس تسجيلًا بصريًا، بل ترجمة روحية لمشهد داخلي.

1. الاستعارة والتشبيه الرومانسي

وصفه لسلمى، بطلة الرواية، يتجاوز الجسد إلى الجوهر. فيراها “تمثالًا من الحزن”، أو “شعلة بيضاء متقدة” تتوهج بروحانية لا تقاس بأنظمة الجمال التقليدية. هذه الصور تُعلي من شأن الحب والمرأة لتصبحا رمزًا للقداسة والاحتراق في آنٍ معًا.

2. التكرار والتوازي الأسلوبي

جبران يوظف التكرار بأسلوب موسيقي أقرب إلى السجع، فيخلق نغمة داخلية تجعل النص يُقرأ وكأنه أنشودة حزينة. نقرأ مثلًا:

> «بيمينك ترفعها إليك، وبشمالك تدفعها إلى الهاوية… تسقيها الحياة بكأس الموت، والموت بكأس الحياة…»
هذا البناء الإيقاعي يمنح النص بعدًا شعريًا رغم كونه نثرًا، ويعكس ازدواجية الحياة والموت، الحب والفقد.

3. التصوير التفصيلي الحسي

وصف التفاصيل الدقيقة في ملامح سلمى، صوتها، ثوبها، نظراتها، يفتح أمام القارئ نافذة حسية نابضة. فصوتها، مثلًا، “ينسكب مثل قطرات الندى”، في استحضارٍ رقيق للسمع والبصر والوجدان معًا.

4. الرمزية والخطاب الفلسفي

وراء كل صورة سردية يقيم جبران جدارًا رمزيًا يعكس صراعات الإنسان والوجود. “الأجنحة المتكسرة” ليست مجرد عنوان، بل استعارة كبرى للحرية الممنوعة، وللأحلام المبتورة، وللحب الذي يُدفن تحت ركام التقال

دوائر الإبداع النصي.. نص يكتب نفسه من زوايا متعددة

في بنيته الأسلوبية، ينتمي النص إلى مدرسة الإبداع الرومنطيقي التي لا تفصل بين الفكرة والإحساس، بين الجمال والجرح، ويظهر ذلك في عدة مستويات:

1. مزج الأجناس الأدبية

جبران لا يلتزم بالسرد الكلاسيكي. في روايته، نجد مزيجًا متداخلًا من النثر الشعري، الفلسفة، والمونولوجات الروحية. النص يتكلم من داخل اللغة، لا عنها فقط.

2. السرد الرومنطيقي

القصة تدور في فلك حبّ عذري مستحيل، ضمن سياق اجتماعي محافظ. الفراق والمأساة جزءٌ من المعادلة، لكنّ اللغة تحوّل الألم إلى فنّ، والمعاناة إلى لحظة تأمل كوني.

3. شعرية اللغة

برغم طابعه النثري، فإن «الأجنحة المتكسرة» تتحدث بلغةٍ شعرية عذبة. كل جملة تكاد تُقرأ على أنها بيت من الشعر الحرّ، بما تحمله من صور، وتوازن، وإيقاع داخلي.

4. تعدد الخطابات داخل النص

النص لا يكتفي بسرد قصة حب، بل يفتح أبوابًا لخطابات متعددة: فلسفية، دينية، سياسية، نسوية، وروحية. هذه الطبقات تمنحه عمقًا خاصًا، وتجعله نصًا مفتوحًا على التأويل.

خلاصة مقارنة: حيث الجمال يلتقي بالمعنى

جماليات البلاغة دوائر الإبداع النصي

استعارات وتشبيهات شاعرية مزج الشعر والنثر والفكر
تكرار وتوازي أسلوبي بنية سردية فلسفية فنيةور حسية دقيقة سرد رومنطيقي، حب مأساوي
رموز وتأملات فلسفية خطاب إنساني سياسي متعدد الطبقات

في الختام

«الأجنحة المتكسرة» ليست رواية تقليدية، بل نصّ إبداعي يتجاوز حدوده الزمنية. جبران لم يكتب فقط عن الحب، بل كتب عن كسر الأجنحة في وجه كل قيد، وعن الجمال الذي يظلّ حيًا حتى في الموت. إنها مرآة لزمن مضى، لكنها أيضًا سؤال مفتوح عن الحرية والحبّ واللغة… سؤال ما زال يتردد في كل قارئ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى