رؤي ومقالات

محمد نجم يكتب :مصر والصندوق.. شــد وجــذب !

هل «تخلع» مصر عباءة صندوق النقد؟.. وهل يكون البرنامج الحالى الذى ينتهى فى نوفمبر 2026 آخر برنامج «للإصلاحات المتفق عليها» بين الطرفين؟.. وهل الأوضاع الحالية تؤهل مصر للتخارج من العلاقة مع الصندوق بعد طول تعامل امتد لأكثر من خمسة برامج متتالية، بعضها لم ينفذ بعد توقيعه؟!
يبدو ذلك.. فقد أعلن رئيس الوزراء مؤخرًا أن لا برامج جديدة مع الصندوق، وأن مصر سوف تعتمد على برنامج وطنى ولمدة خمس سنوات مقبلة.
وأعتقد أن «ذلك» ممكن ولو مؤقتًا، فالعلاقات والمواقف تتغير بين الأطراف طبقا للمستجدات والظروف الجديدة.
وقد لا يعلم البعض أن مصر عضو مؤسس لصندوق النقد الذى أنشأ بعد الحرب العالمية الثانية – مع البنك الدولى – للعمل على استقرار الاقتصاد العالمى وتوفير التمويل الميسر لبعض الدول النامية.
وقد استعانت العديد من دول العالم بخبرات الصندوق الفنية ومساندته المادية، وهو ما فعلته مصر أيضا فى نهاية القرن الماضى، حيث وقّعت حكومة المرحوم د. عاطف صدقى «برنامج» للإصلاح الاقتصادى وتم تنفيذه ونجح فى تحقيق أهدافه وكان «مثالا» جيدا يستشهد به خبراء الصندوق عندما تتوفر إرادة الدول المتعثرة وتعمل بجدية للخروج من هذا التعثر.
ثم وقّعت مصر برنامجا آخر فى بداية الألفية الحالية وتم التوافق على التنفيذ دون لجوء مصر للاقتراض كالمعتاد.
ومن حُسن الحظ أن كان لمصر عدد من أبنائها فى مجلس إدارة الصندوق وإداراته المختلفة، وشهد لهم الجميع بالكفاءة والجدية والمساهمة الجادة فى كل برامج الإصلاح التى نفذها الصندوق فى العديد من الدول، على رأسهم المرحوم د. عبد الشكور شعلان، والصديق د. محمد العريان، ود. فخرى الفقى وآخرون من الشباب المصرى الواعد.
10 سنوات من التعاون
وقد استأنفت مصر اللجوء إلى الصندوق عام 2016، واستعانت بخبرائه لإصلاح الضرائب والجمارك وقطاعات اقتصادية أخرى، وكانت روشتة الصندوق وقتها.. تغيير سعر الصرف، وتمكين القطاع الخاص، والعمل على تحقيق التوازن المالى والنقدى، وحصلت مصر على
12 مليار دولار على 6 شرائح على مدى ثلاث سنوات.
وفى أكتوبر عام 2022 لجأت مصر مرة أخرى للصندوق فى اتفاق جديد بهدف الحصول على 3 مليارات دولار لمواجهة أزمة عجز النقد الأجنبى – بسبب الحرب الروسية الأوكرانية – وخروج أكثر من 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق المصرى، وفى مارس 2024 تم تعديل الاتفاق وزيادة القرض المطلوب من 3 إلى 8 مليارات دولار، يتم صرفها على شرائح مختلفة على مدى مدة البرنامج.
ومنذ تعديل البرنامج وحتى الآن حصلت مصر على 3.3 مليار دولار، بعد أربع مراجعات لبرنامج التنفيذ المتفق عليه بين الطرفين.
ونحن الآن بصدد المراجعتين الخامسة والسادسة معا، حيث ستحصل مصر بعد انتهائهما على حوالى 275 مليون دولار، قبل انتهاء شهر أكتوبر المقبل.
ومؤخرًا أعلنت المتحدثة الرسمية للصندوق: أنه مع بدء تحقيق الاستقرار الاقتصادى الكلى فى مصر، حان الوقت لإجراء إصلاحات أعمق لإطلاق العنان لإمكانيات النمو فى البلاد.
والإصلاحات العميقة التى يطلبها الصندوق تتلخص فى المحافظة على استقرار سعر الصرف المرن، ورفع الدعم عن الوقود لخفض عجز الموازنة، وتسريع برنامج الخصخصة وخروج بعض المؤسسات من الاقتصاد، فالصندوق يرفع شعارا دائما فى مواجهة الدول التى تستعين به «تحسين بيئة الاستثمار وتمكين القطاع الخاص، وتحقيق التوازن المالى».
ومصر لا تمانع فى ذلك، بل قطعت شوطا لا بأس به فى تحسين مناخ الاستثمار وتسهيل إجراءاته، وتخفيض عجز الموازنة، وتحرير سعر الصرف، وهو ما انعكس فى تحسين المؤشرات الكلية للاقتصاد القومى.
ومن ثم انحسر الخلاف فيما يسمى «بالتخارج من الأصول المملوكة للدولة» وعلاج ملف التمويل الخارجى، وفيما يتعلق ببرنامج الخصخصة.. لقد نجحت مصر فى تنفيذ العديد من العمليات الناجحة والتى حققت – حتى الآن – أكثر من 6 مليارات دولار.
ولكن المشكلة – أن الظروف العالمية والنزاعات الإقليمية غير مواتية لتنفيذ بقية الطروحات المطلوبة، مثل بيع بنك القاهرة وشركتى الوطنية وصافى.. والذى أعلنت الحكومة عن طرحهما أكثر من مرة، وحتى يتم ذلك تعمل الحكومة على ترشيد الإنفاق، وتأجيل بعض المشروعات غير العاجلة، وتحسين بيئة الأعمال ومنح حوافز للمستثمرين مع العمل بجدية على زيادة الصادرات المصرية بنسبة 20% على مدى السنوات الخمس المقبلة، مع زيادة الحصيلة الضريبية، وزيادة الموارد الدولارية والاستمرار فى برنامج الخصخصة.
خلاف وجهات النظر
إذن.. مصر مستمرة فى عمليات الإصلاح الاقتصادى وبنجاح متدرج ومتتالى، ومازالت تعمل على خفض الدين الخارجى، وعجز الموازنة، ولديها برنامج وطنى للإصلاح لتحقيق التنمية المستدامة من خلال الاعتماد على «الاقتصاد العينى» أى المنتج من خلال الاهتمام بالصناعة والزراعة والخدمات (السياحة والخدمات المالية وغيرها)، ومن مصلحتها الاستمرار فى عمليات الإصلاح مع الاستمرار بالاستعانة بالخبرات الفنية للصندوق باعتباره «طبيب» الموجوعين اقتصاديًا!
خبراء الصندوق لديهم وجهة نظر أخرى مفادها أن لدينا كطرفين «مشروطية» تعتمد على تنفيذ البرنامج طبقا لتوقيتات زمنية محددة، حيث تتسم المراجعات الدورية ويتم الإفراج عن شريحة القرض المقررة بعد كل مراجعة «تايم تيبل»، وقد وافق الصندوق من قبل على تأجيل بعض المراجعات ودمجها فى المراجعة التالية لها.
وحجة الصندوق فى ذلك؛ أن مصر هى التى حددت الإصلاحات المطلوبة، وتم الموافقة عليها من الصندوق وتم توقيع الاتفاق الملزم للطرفين، مقابل تقديم استشارات فنية وقرض 8 مليارات دولار بشروط ميسرة.
وأعتقد أن الخلاف ليس «عميقا» فالإصلاحات المتفق عليها يتم تنفيذها بخطوات مدروسة، وقد أعلن رئيس الوزراء مؤخرًا خفض الدعم على بعض المشتقات باستثناء السولار، وكذلك الكهرباء برفع أسعار شرائحها.
فى ذات الوقت مصر تسدد ديونها للصندوق فى مواعيدها المقررة 397 مليون دولار مع نهاية الشهر الحالى، و1.07 مليار دولار قبل ديسمبر المقبل، مع ملاحظة أن ديون مصر للصندوق تبلغ 14.91 مليار دولار وينتهى برنامج سدادها عام 2047.
مع الإشارة إلى أن الأرجنتين مدينة للصندوق بحوالى 43 مليار دولار، وأوكرانيا 12 مليارا، وباكستان 7.74 مليار دولار.
والمعنى.. أنه ليس فى مصلحة الطرفين استمرار الخلاف، فمصر سوف تحافظ على علاقتها الجيدة بالصندوق، والأخير يرغب فى الاستشهاد بقصص نجاح لبعض برامجه مع دول جادة ومنها مصر الملتزمة بتنفيذ تعهداتها دائمًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى