رؤي ومقالات

إبراهيم أبو عواد يكتب :طبيعة بناء المسرحيات بين إبسن وبريخت

يُعْتَبَرُ الكاتبُ النرويجي هنريك إبسن ( 1828 _ 1906 ) مِنْ أهَمِّ كُتَّابِ المَسْرَحِ عَلى مَرِّ التاريخ ، ويُعْرَف بـِ ” أبو المَسْرَحِ الحديث ” . تَمتازُ نَظَرْتُهُ إلى الحَياةِ بالعُمْقِ والشُّمُولِ ، وَيَمْتاز مَسْرَحُهُ بِدِقَّةِ المِعمارِ والاقتصادِ معَ تَعبيرٍ شاعريٍّ دقيق .
وَصَفَ النُّقَّادُ كُلَّ مَسرحية مِنْ مَسرحيات إبسن بالقُنبلة المَوقوتة ، فَكُلٌّ مِنها تُفَجِّر قضيةً مَا ، وتُثير رُدودَ فِعْلٍ عنيفة ، فقد اختار إبسن تَمزيقَ الأقنعةِ كُلِّهَا ، وكَشْفَ الزَّيْفِ الاجتماعيِّ ، داعيًا إلى الاعتدالِ والوسطية بعيدًا عن التَّطَرُّف .
انتهج إبسن المُنْعَطَفَ الواقعيَّ في أعماله ، فَقَدْ تَطَرَّقَ إلى قضايا واقعية وخطيرة يُعاني مِنها المُجتمع الأوروبي، كما تَنَاوَلَ قضايا إنسانيَّة خالدة تُشْغِلُ الإنسانَ عَبْرَ العُصور،مِثْل: قَضِيَّة مَاهِيَّة الحقيقة، والفارق بَين الحَقيقةِ والواقع ، أو الصِّرَاع بَين الواقعِ والمِثال، وقضية النِّفَاقِ الاجتماعيِّ، وغَيْرها مِن القضايا التي تُثيرها أعمال إبسن المَسرحية ، والتي لَيْسَ بالضَّرورة أن تَضَعَ لَهَا حُلُولًا .
تَتَّسِمُ مَسْرَحِيَّاتُ إبسن بالواقعيَّةِ الدِّرَامِيَّة ، وَتَناولِ القضايا الاجتماعيةِ والأخلاقيةِ المَحْظورة ، مِثْل مَكَانَةِ المَرْأةِ ، والزَّواجِ ، والمُشكلاتِ النَّفْسِيَّة ، والفَسادِ السِّياسيِّ والاقتصاديِّ ، والنِّزاعِ بَيْنَ الفَرْدِ والمُجتمع . بالإضافة إلى الاهتمام العميق بالشخصيات وتطويرها النَّفْسِي والفِكْري .
اتَّبَعَ إبسن في مَسْرَحِهِ أُسلوبًا دِراميًّا مُمَيَّزًا عُرِفَ بالمَنهجِ الانقلابيِّ ، بمعنى أن تبدأ المسرحية بموقف في الحاضر، ثُمَّ تتوالى أحداثٌ مِنَ الماضي في العَودةِ ، لِتَنْسِجَ النِّهايةَ المَأساويَّة لأبطال المسرحية . أي إنَّ الأحداثَ الماضية تَتَكَشَّفُ تدريجيًّا لبناءِ النِّهايةِ المأساويَّة والكارثية للشَّخْصِيَّات .
تَمتاز مَسْرَحِيَّاتُ إبسن بِمُمَيِّزات واضحة ، هي :
1_ المَسْرَحِيَّاتُ التاريخية مِنها تبدأ بدايةً عاصفة ، أمَّا المَسْرَحِيَّاتُ الاجتماعية فتبدأ هادئةً مُشَوِّقة مُعتمِدة على الحِوار الدقيق .
2_ الالتزام بِوَحْدَةِ الزمان والمكان ، كما وضعها اليونانيون .
3_ بِناؤُها المَسْرَحِيُّ مُحْكَمٌ إحكامًا دقيقًا لا يُجَاريه فيه مُؤلِّف آخَر .
4_ الحَبْكَةُ فِيها تبدأ بالقُرب مِن نُقْطة الزمان ، مِمَّا يُساعد على إخضاع عناصر المسرحية الثلاثة : الزمان والمكان والكلام .
5_ شخصياتها من النماذج الإنسانيَّة العالميَّة الطبيعيَّة .
وَيُعْتَبَرُ الكاتبُ الألمانيُّ بِرتولت بريخت ( 1898 _ 1956 ) مِنْ أَهَمِّ كُتَّابِ المَسْرَحِ العالميِّ في القَرْنِ العِشرين . ويُعْرَف بـِ ” مُؤسِّس المَسْرَحِ المَلْحَمِيِّ ” ، وهَذا النَّوْعُ المَسرحيُّ الفريدُ يَهْدِفُ إلى دَفْعِ الجُمهورِ للتَّفكيرِ النَّقْدِيِّ في القَضَايا الاجتماعيةِ والسِّياسيةِ بَدَلًا مِنْ إثارةِ المَشَاعِرِ وَالانغماسِ العاطفيِّ في الأحداثِ .
والمَسْرَحُ المَلْحَمِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَ نَوْعَيْن أدَبِيَّيْن هُما : الدِّراما والمَلْحَمَة ، أي إنَّه يَتَضَمَّنُ شَكْلَي الأدبِ المَسْرَحِيِّ والسَّرْدِيِّ . والهَدَفُ مِنْهُ هُوَ الابتعادُ عَن تَصويرِ المَصائرِ الفرديةِ المأساويةِ المَعهودةِ مِنْ مَرحلةِ الخَيَالِ الكلاسيكيِّ وواقعِها الظاهريِّ ، وتَصويرُ الصِّرَاعاتِ الاجتماعيةِ الكُبرى مِثْل الحربِ والثَّورةِ والاقتصادِ والظُّلْمِ الاجتماعيِّ ، وَتَحويلُ المَسْرَحِ إلى أداةٍ لجعلِ هَذه الصِّراعات شَفَّافَةً ، وَدَفْعُ الجُمهورِ لِتَغييرِ المُجتمعِ إلى الأفضلِ .
يَقُوم مَذهَبُ بريخت في المَسْرَحِ عَلى فِكْرَة أنَّ المُشَاهِدَ هُوَ العُنْصُرُ الأهَمُّ في تَكوينِ العَمَلِ المَسرحيِّ ، فَمِنْ أجْلِه تُكْتَبُ المَسرحية حَتَّى تُثير لَدَيْه التَّأمُّلَ والتَّفكيرَ في الواقع، واتِّخاذ مَوْقِفٍ وَرَأيٍ مِن القَضِيَّة المُتناوَلة في العَمَلِ المَسْرَحِيِّ .
مِنْ أهَمِّ أساليبِ بريخت في كتابة المسرحيات :
1_ هدم الجِدار الرابع : يُقْصَد بِه جَعْل المُشَاهِد مُشَارِكًا في العَمَلِ المَسْرحي، واعتباره العُنْصُر الأهم في كتابة المسرحية . والجِدَارُ الرابع معناه أنَّ خَشَبَةَ المسرح التي يقف عليها المُمَثِّلُون ، ويقومون بأدوارهم ، تُشْبِه غُرفة مِن ثلاثة جُدران ، والجِدَارُ الرابع هو جِدَار وَهْمِي ، وهو الذي يُقَابِل الجُمهور .
2 _ التَّغْريب : يُقْصَد به تغريب الأحداث اليومية العادية، أي جَعْلها غريبة ومُثيرة للدَّهْشَة ، وباعثة على التَّأمُّل والتَّفكير ، مِثْل استخدام أُغْنِيَات بَيْنَ المَشَاهِد ، وذلك كَنَوْعٍ مِنَ المَزْجِ بَين التَّحْريضِ والتَّسْلية ، أوْ خُروج المُمَثِّلِ عَنْ دَوْرِه ، لإبقاءِ الجُمهورِ في حالةٍ مِنَ الوَعْي بأنَّ مَا يُشاهده هُوَ عَرْض مَسْرحي ، وَلَيْسَ واقعًا مُبَاشِرًا ، مِمَّا يُشجِّع عَلى التَّحليلِ النَّقْدِيِّ .
3_ المَزْج بَين الوَعْظِ والتَّسْلية ، أوْ بَين التَّحريض السِّياسي والسُّخْرية الكوميدية .
4_ استخدام مَشَاهِد مُتَفَرِّقَة. بَعْضُ مَسرحياته تَتَكَوَّن مِنْ مَشَاهِد مُتَفَرِّقَة ، تَقَع أحداثُها في أزمنة مُختلفة ، ولا يَرْبط بَيْنَها غَيْرُ الخَيْطِ العام للمَسرحية .
إنَّ إبسن وبريخت اثنان مِنْ أعْمِدَةِ المَسْرَحِ في الغرب ، اشْتُهِرَ كُلٌّ مِنهما بابتكاراتِه في المَسْرَحِ الواقعيِّ والمُلْتَزِم ، ويَربطهما في كثير مِنَ الأحيانِ الاهتمامُ بِمَآسِي الرَّأسماليَّةِ والظُّلْمِ الاجتماعيِّ ، خاصَّةً في أعمالِهما التي تُسلِّط الضَّوْءَ عَلى قَضَايا المَرْأةِ ، والظُّلْمِ المُمَارَسِ ضِدَّهَا .
وَقَدْ أسهمَ إبسن وبريخت في تَطويرِ المَسْرَحِ، حَيْثُ قَدَّمَ الأوَّلُ الواقعيةَ التي كَشَفَت الحقائقَ الاجتماعية ، وَقَدَّمَ الثاني المَسْرَحَ المَلْحَمِيَّ الذي يَدْعُو إلى التَّغييرِ الاجتماعيِّ والفِكْرِيِّ .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى