رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :من الرفاق الى النصابين

ـــــ إن من يعيشون حاضرهم بمعزل عن سياقه ويتجاهلون الاستمرارية التاريخية ويفتقرون إلى الثقافة، قادرون على تحويل وطنهم إلى صحراء بلا تاريخ، بلا ذاكرة، بلا صدى، وطن يفتقر لكل مقومات الجمال:إن بقاء أي شعب يعتمد على قوة قيمه الثقافية”ـــ من كتاب: الغرب المختطف، ميلان كونديرا.
خطاب ميلان كونديرا الجرئ في حزيران يونيو عام 1967 في المؤتمر الرابع لاتحاد الكتاب في تشيكوسلوفاكيا قبل مغادرته الى المنفى الفرنسي حتى مات فيه عام 2023 في باريس، الخطاب الذي وضع ميلان كونديرا في مواجهة السلطة السياسية والسلطة الثقافية التابعة:
فقد وظيفته ومنع تداول كتبه لمواقفه المضادة للنظام وفي عام 1975 غادر تشيكوسلوفاكيا الى الأبد بعد اسقاط جنسيته ودفن في باريس عام 2023 وتعرض للتهم في الزمن الشيوعي وزمن ما بعده ورفض ترجمة رواياته الى اللغة التشيكية ويزور براغ سرا ولا يلتقي بالنخبة الادبية،
وكما قال عن التغيير:
” حل النصابون محل الرفاق، وحلت البلاهة التجارية محل الايديولوجيا”.
وفي عام 1993 لم تعد تشيكوسلوفاكيا موجودة بعد أن تفككت إلى التشيك وسلوفاكيا كما توقعها كونديرا.
لا القوة المسلحة ولا الاقتصاد ولا الحلفاء ولا البوليس يضمن بقاء الامم والدول بلا العدالة وقوة قيمها الثقافية بالمعنى الواسع للثقافة كنظام مركب من القيم والاخلاق الصافية النظيفة ومشاعر التضامن والمحبة والمصير المشترك وشراكة الارض والامل والمستقبل والعادات والمعرفة والفنون والاداب وطرق التفكير وحتى المصافحة وتقاليد دفن الموتى والعلاقات العامة والتحية واخلاق الضيافة والوضوح والوفاء والصدق مع الذات والاخرين وشرعية الاختلاف والتعايش مع الاخر لان كل ذلك يصنع المشاعر والعواطف والمواقف والاحاسيس وينظم ايقاع الحياة والخ،
وكذلك طريقة رؤيتها لتاريخها بذاكرة حية او بلا ذاكرة، تقديساً أم تصفيةً وتنقيةً وحواراً معه، لان المستقبل هو تراكم الماضي والحاضر وكيف نفكر ونفعل اليوم، يكون المستقبل.: المستقبل ليس غيباً بل صناعة.
الدول التي تريد البقاء حية وعادلة لا مفر لها من الحفاظ على ثقافتها وقيمها وتاريخها بعد التنقية والقطيعة معه ،
والقطيعة لا تعني الانفصال بل التصفية من الشوائب، وعكس ذلك عليها مهما طال الزمن أن تستعد للرحيل كما سبقتها دول وأمم وامبراطوريات اختفت من الواقع والتاريخ ونحن ومضة في عمر الزمن.
حتى أوروبا السياسية نفسها ظلت باقية بفضل هذه القيم الثقافية المنعزلة عن السياسات الاستعمارية المستمرة.
الغرب السياسي يختطف الدول الصغيرة تحت شعارات ملفقة،
وكما يقول كونديرا في الكتاب:
“يؤمن ضيق الأفق الفخور بأن القدرة على تكييف العالم مع صورته هي جزء من حقوقه غير القابلة للمناقشة، وبما أن العالم يتألف أساسا من كل ما يتجاوزه، فهو ــــ أي الغرب ـــــ يكيف العالم مع صورته عبر تدميره”.
التدمير ـــــ تدمير المختلف بعنوان عدو ــــ واعادة البناء ثنائية سائدة ومتلازمة في الثقافة السياسية الغربية والامريكية لكنهما يعنيان شيئاً واحداً: تدمير الآخر المختلف لكي يصبح جزءاً من صورة الغرب من خلال بناء جديد مكيّف، أو يختار البقاء فوق الأنقاض:
بهذه الصورة الزائفة يصبح البناء بعد التدمير فعلاً أخلاقياً وانسانياً يسمى” الاعمار” وهو العنوان الملون للنهب من الشركات الرأسمالية: فلا إعمار بلا تخريب وتدمير.
يذكر الكاتب الامريكي بوب وودورد الذي أسقط الرئيس نيكسون في فضيحة” ووترغيت” وهو حامل جائزة بوليتزر الادبية الامريكية مرتين في سابقة لم تتكرر ، يقول : خلال التحضير لغزو العراق كان المخططون وهم اصحاب شركات كبرى يتنافسون على تدمير المؤسسات العراقية ويتقاسمون الاعمار بينهم قبل الحرب.
لكن هذا العقل الفخور بقوته لا يعرف ان هناك أشياء كثيرة تحطمت لا ينفع معها الاصلاح وانها لم تخلق انسانا مكيفاً بل عدواً وكما قال الفيلسوف جان بودريار أهم فلاسفة الغرب عن سقوط البرجين عام 2001:
” نحن خربنا حياتهم، وهم جاؤوا الينا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى