كتاب وشعراء

الذات والموضوع …بقلم عبد الله النصر

إن الإبداع لا يولد من فراغ، بل ينشأ من تفاعلٍ حيّ بين قطبين متقابلين: الذات والموضوع. حتى في الحالات التي يظن البعض أنها تعبير شخصي خالص، يكون المبدع في الواقع قد حوّل بعض أفكاره ومشاعره إلى موضوع يضعه أمام ذاته، ثم يبدأ التفاعل بين الاثنين ليخرج عملٌ جديد يرتبط بالواقع أو يستلهم أحداثه.
غير أن علينا أن نُفرّق بين الذات وبين الصور الذهنية المخزونة في داخل المبدع. فهذه الصور – رغم وجودها في ذاكرته – تبقى ذات طابع موضوعي، لأنها في الأصل مستمدة من الخارج. أما “الأنا” فهي كينونة ثابتة، جوهر الشخصية ومركزها. والذات لا تتوقف عن النمو، إذ إن تلك الصور الذهنية بمثابة غذاء لها: ما يُهضم منها يصبح جزءاً من قوام الأنا، وما لا يُستوعَب يبقى عالقاً في الذاكرة أو يذوب في النسيان.
هنا يبرز الفارق بين المبدع وغيره. فالمبدع يتميز بصلابة ذاته وقدرتها على التفاعل مع الصور الذهنية. ليس كل من يمتلك ذاكرة قوية مبدعاً؛ إذ قد يظل محتفظاً بصور كثيرة لكنه عاجز عن صهرها في ذاته وتحويلها إلى معنى جديد. بينما المبدع ينتقي، يقيّم، ويُعيد تشكيل تلك الصور لتصبح مادة حيّة لإبداعه.
عملية الإبداع تشبه الهضم: فالمبدع يختار ما يناسبه من الانطباعات والصور، يمتص ما يغذيه، ويتخلص مما لا يتقبله. وما يُستوعَب يتحول إلى جزء من ذاته، أما ما يُرفض فيبقى جسماً غريباً سرعان ما يتلاشى.
وعندما نتحدث عن التذكر والحفظ، تبرز أمامنا التقنية الحديثة: الحاسوب وبنوك المعلومات ووسائل التخزين الهائلة. لقد وفرت هذه الأدوات قدرة مذهلة على الحفظ والاستدعاء الفوري، ووفرت على الإنسان عناء الجهد والوقت. لكن، على الرغم من هذا الإنجاز، لا يمكن اعتبارها بديلاً عن الإبداع البشري؛ فالتقنية تختزن، لكنها لا تُبدع.
من هنا، علينا ألا نكتفي بالاستهلاك والانبهار بما تنتجه العقول في الشرق والغرب، وألا نظل مجرّد متلقين لثمار الآخرين. بل ينبغي أن نستثمر هذه الوسائل في ما يخدمنا، ونحوّل ما توفره لنا من وقت وجهد إلى فرصة لبناء إبداعنا الخاص. فهكذا وحده يتشكل الإبداع المتكامل: من تفاعل حيّ بين الذات وما تستقبله من صور الواقع، ومن توظيف واعٍ لما تتيحه التقنية الحديثة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى