كتاب وشعراء

رؤوس بلا رقبة ……….بقلم // علي درويش // المغرب

……….رؤوس بلا رقبة
……….بقلم : علي درويش
••••
كانت حركة التمرد تطبخ في الخفاء، قبل أن تعلن عن نفسها خلال التصويت السابق، الذي شهد معركة طاحنة، بدأت بالتراشق بالكلمات ثم تحولت الى تشابك بالأيدي، فمبارزة بالعصي وتقاذف بالحجارة، حينها كان صوت البوهالي الأحمق الهرم يرتفع وهو يقف فوق صخرة رافعا رأسه للسماء مرددا كلاما غير مفهوم:
-سيبة… هاذي …. عادت … عادت السيبة …!!
هدأ الوضع بفضل تدخل وسطاء من قبائل مجاورة سارعوا الى رمي العار على المتطاحنين، وإلا لكانوا أوشكوا على استعمال بنادق الصيد.
الغريب أنه بفضل تلك المعركة تمكن الهدار الشاب المتحمس ومناصروه من افتكاك الكرسي من أيدي الحاج الخالدي وجماعته.
كان الهدار، هذا الشاب المعتدُّ بنفسه، قد قضى سنوات بالجامعة أيقن على إثرها من أن الجامعة لم تعد تضمن مستقبلا ولم تعد تطعم جائعا، ثم جرب رهان الهجرة إلى الضفة الأخرى، فوجده هو الآخر رهانا على حصان خاسر؛ فصار يُمنّي نفسه بكرسي الجماعة.. إذ لو تحقق له ذلك، لضمن لنفسه مكانة وسط القوم ولشق طريقه نحو الاغتناء معا.
طفق الهدار يتحرك طيلة أيامه الأولى على رأس الجماعة، لا يكل من التنقل بين الدواوير ولا يمل، بل ظل حريصا على الحفاظ على خطابه الواعد الذي ردده إبان الحملة وشحنه بقوة جذب متفائلة، كما حافظ على ارتداء جلباب صوفي وعمامة ناصعة البياض على طريقة أعيان القبيلة، وشوهد مرارا يترجل من على سيارة الجماعة ويسارع الى تقبيل رؤوس كبار السن إن صادفهم في الطريق. و هو ما فعله مع الخالدي إبان مأدبة عقد صلح بينهما أعدها وجهاء القبائل المجاورة بإتقان. فقد انحنى الهدار بتكلف واضح كي يقبل يد الخالدي الذي مد، هو الآخر، يده وهو يرفع رأسه إلى السماء بشموخ مثل أسد هَرِمٍ جُرِحَ في كبريائه…
إلا أن حركة الهدار صارت تخفت مع مرور الوقت، وعادت لهجته الى طبيعتها، فكلما سأله أحدهم في وليمة ما عن مآل مشروع الطريق البرية، صم أذنيه ونأى بجانبه، وأجاب مؤنبا:
-نحن أدرى بأولوياتنا…
في ليلة بوليمة أحد الأعراس، مر البوهالي العجوز الهرم الذي يردد كلاما غير مفهوم فرأى كبار القوم ومنهم الخالدي والهدار جنبا الى جنب ملتفين حول مائدة طُرح فوقها خروف مشوي، فنظر الى الخروف ثم رفع رأسه الى السماء وكأنه يخاطب السحاب :
-أيها المسؤول!! لن تفيدنا بجلبابك الأبيض، بل برقبة تسمح لرأسك أن يلتفت ليرانا ويسمعنا، كن ذا رأس يتحرك في كل الاتجاهات، نحن بحاجة لخروف حيًّ يلتفت يمينا ويسارا، لسنا بحاجة لخروف مشوي ثابت الرأس فوق طاولة بلا حراك ..
علت قهقهات الجميع بأفواه ملأى بأطراف من لحم وهم يرشقون البهالي الأحمق بنظرات مليئة بالسخرية والازدراء.
قبل إنجاز أول مشروع لطريق برية تصل البلدة بالطريق المعبدة، لم يُعِر الهدار أدنى اهتمام لتحذير أهل البلدة من هشاشة القنيطرة .. حاولوا جاهدين أن يقنعوه بأنهم أدرى منه بمكر هذا الواد الصامت الذي يتوسط مراعيهم ومزارعهم.
لكن الهدار صم أذنيه و أسرع بوضع قنيطرة صغيرة فوق حجارة وطين بمنعرج للوادي.
كانت ليلة ماطرة من ليالي الخريف تلك التي هاج خلالها الوادي بغتة، فغطى الأراضي المجاورة بالطين والحجارة والوحل، وأزاح القنيطرة الهشة من طريقه…
أما الناس فصاروا يتساءلون مرعوبين:
-ما الفرق يا ترى، بين الخالدي الأمي الجاهل والهدار المثقف العنيد الأناني الذي لا يلتفت لأحد ولا يصغي إلا لنفسه؟ أي فرق بين العهدين؟ مادام كل منهما يحمل رأسا بلا رقبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى