الزيَّات بين الأسلوب المتأنق والفكرة الواضحة …….. بقلم // زيد الطهراوي // الأردن

الزيَّات بين الأسلوب المتأنق والفكرة الواضحة
كتب: زيد الطهراوي
أحمد حسن الزيات (1885–1968) أديب مصري من كبار رجال النهضة الأدبية في القرن العشرين. وُلد في الدقهلية، وتدرج في الأزهر ثم تابع دراسته في باريس، فجمع بين أصالة التراث وعمق الثقافة الحديثة. وقد خلد اسمه بتأسيس مجلة الرسالة عام 1933، التي كانت منبرًا رائدًا للفكر والأدب، وجمع مقالاته المنشورة فيها في كتابه الشهير وحي الرسالة.
أول ما يخطر لي عن هذا الأديب المبدع هو أن أسلوبه أذهل الأدباء فأعجبوا به، لكنه كان محيرًا لهم أحيانًا، يضع خطواتهم على ساحل التأمل، وأحيانًا أخرى على ساحل الانتقاد. فما هي حجتهم، مع أن الشعر يخضع كثيرًا لريشة الشاعر وألوانها المبهرة، فيظهر الأسلوب مشرقًا يسحر الألباب؟ لماذا يسمحون للشعر أن يتسامى بأسلوبه، ولا يسمحون للنثر بهذا التسامي؟
النثر مظلوم، والشعر هو المحلق في دنيا الناس. الشعر يصمد، وتتسابق الأجيال على تناقله، لأنه يحتوي على موسيقى خارجية تؤهله للإنشاد والحفظ والإعجاب، فإذا احتوى على القيمة الفنية و المعنى السامي بعد ذلك، صار الإقبال عليه كبيرًا. أما النثر، فإن روعته غالبًا ما تكون محجوبة، وبريقه مغموراً. هنا يصبح على المهتم أن يحفر بعمق، ليستخرج كنوزه. الشعر يأتينا، أما النثر، فالناس يذهبون إليه.
وهناك كثير من النثر الجميل لا يعرفه كثير من الناس، لأنهم يركّزون على الشعر المليء بالجرس والإثارة. ومن هذا النثر ما سكبه الزيات على قلوب قارئيه، كأنه الورد بأريجه الفواح، والطائر بشدوه العذب. فما هي حجة النقاد في إعجابهم بنثر الزيات وقلقهم منه في نفس الوقت؟
يقول عباس محمود العقاد – صديق الزيات ورفيقه في دروب الأدب –:
“الزيات كاتب متأنّق لا يكتب الصفحة الواحدة إلا في يومين أو أيام، ولولا اضطراره إلى مسايرة الرسالة لشغل نفسه بالصفحة الواحدة أسابيع. تأنق الزيات تأنق مقبول.. ولكنه حرم أسلوبه من قوة الحركة، فهو يقهر القارئ على الوقوف من وقت إلى وقت ليسأل عن الطريق.”
الغريب أن العقاد، القارئ المتمرس والصبور على القراءة، يرى أن أسلوب الزيات قد يقهر القارئ على الوقوف و الضياع ، مع أن المشكلة تكمن في القارئ المتعجل فقط. فإذا كان العقاد قارئًا متعجلاً، فمن حقه أن يقول: “يقهر القارئ على الوقوف من وقت إلى وقت ليسأل عن الطريق.” لكنَّ العقاد قارئ صبور، متمعن، يستطيع أن يفهم الجملة دون أن يضيع في طرقات جمال الأسلوب ، و هنا موطن الاستغراب!
لقد حفظ الزيات القرآن الكريم – والقرآن معجز في بلاغته وأسلوبه – ثم نهل من التراث العربي شعرا ونثرا، ثم اغترف من أدب الغرب ما استطاع، ثم أسس مجلة الرسالة وجعلها مدرسة بيانية تخرج منها أبرع الأدباء. فليس من المستغرب بعد هذا كله أن يكون أسلوب الزيات متينًا وجميلاً.
فهل يستحق أديب مبدع كهذا أن نقرأه قراءة المتعجل فنضيع في طرقات أسلوبه الجميل ونهمل فكرته الرائعة؟ جمال الصياغة عند الزيات يظهر الفكرة ناصعة، ويشوق القارئ إلى تفهمها. فقد استخدم الزيات جمال الصياغة باعتباره أداة للتأثير الفكري، وليس مجرد تزيين. وحق للنقاد أن يضجروا من أسلوبه إذا كان مجرد زينة. لذلك امتدح كثير منهم تفنن الزيات في الأسلوب كركن شامخ في تجربته الأدبية، لأنهم وجدوا في أدبه دقة بلاغية واتساقًا في البناء: الجملة تقابل الجملة، والفقرات متوازنة لتشكل إيقاعًا موسيقيًا مشوقًا.
واختار الزيات ألفاظه بعناية لتعبّر عن عاطفته، تلك العاطفة التي وضعت أفكاره في خيال بديع، تظهر ضعف النفس وقوتها، حنينها وأنينها، وتغرس تأملاته كأديب مفكر في نفوس القراء. وها هي مقالاته وخواطره شاهدة على كل ذلك التميز.
اتفاقي مع العقاد جزئي، وهذا الاتفاق يحمل نصيحة ثمينة لمن يريد أن يقرأ الزيات: لا تقرأه قراءة المتعجل. اقرأ وأنت تحب القراءة، في وقت فراغ يعينك على التأمل. ركّز على المقدمة والخاتمة، فالفكرة الرئيسة تتضح حتمًا فيهما. توقف عند كل فقرة، أعد قراءتها، اختصرها في فكرة، ثم ستفرح حين تكتشف كيف يضيء الأسلوب المتأنق الفكرة الرائعة.
الزيات يعلمنا درسًا مهمًا: أن جمال الأسلوب ليس زخرفة بلا معنى، بل وسيلة لتوضيح الفكر وإثراء الروح. ومن يقرأه بعين صادقة، يخرج وكأنه اكتشف كنزًا، لا مجرد نص أدبي.