لمياء موسي تكتب :المعادلة الخالدة

نحتفل كل عام بذكرى حرب أكتوبر. إن الاحتفال لم يعد مجرد ذكرى عابرة، بل تحوّل إلى هوية وطنية راسخة في وجدان الشعب المصري، وإلى فخر يشاركنا فيه أشقاؤنا العرب. هوية تتجدد عامًا بعد عام، لتعيد إلى أبنائنا ــ الذين تاهت بعض هوياتهم في زحام العالم الإلكتروني وتشعبات الشبكة العنكبوتية ــ معنى الانتماء وروح الوطنية. نستعيد معها لحظة النصر، وفرحة استرداد الأرض، ونستحضر مشاهد الصمود وطَعم الانتصار، وبالفخر الذي عمّ الوطن. غير أنني في مقالي هذا لا أود أن أتوقف عند هذه الزاوية المضيئة وحدها، ولا عند تفاصيل ما قبل الحرب أو أسباب اندلاعها، ولا حتى عند الحسابات السياسية التي دفعتنا إلى دخول ذلك النفق ثم خوض المعركة للخروج منه.
النصر كان عظيمًا، غير أن الحرب، رغم أهازيجها وأناشيد الفرح، لم تكن مجرد صفحة مكللة بالمجد؛ بل كانت وجعًا عميقًا وفاتورة باهظة الثمن. دفعت مصر من دماء أبنائها وشبابها الذين اصطفوا على ضفاف القناة وتحت لهيب المعارك، ومن أبنائها في الداخل الذين تقاسموا قسوة الظروف وشدّوا على أيادي المقاتلين. دفعت من اقتصادها ومواردها كلفة فادحة، ومن حاضرها ومستقبلها، فوق ما صاحب ذلك من خوف وقلق وتوتر، ومن جهد دبلوماسي وسياسي شاق، بل حتى من رصيد علاقاتها الخارجية وعداوات فرضتها المعركة في سبيل استرداد الأرض ورفع الراية عليها. ليقف هذا الجيل اليوم محتفلًا بنصرهم، شاكرًا تضحياتهم، مستحضرًا أن خلف كل لحظة فرح… ظلًا طويلًا من الألم.
ربما كان بالإمكان تفادي بعض الكلفة الثقيلة وسنوات الصمود، أما ما قبل الحرب فقد كانت سنوات عجاف ذُقنا فيها مرارة الهزيمة والانكسار، ولو طغت العقلانية على الحسابات ومنحت الدبلوماسية مساحة أوسع، لربما تغيّر المسار. غير أنّ ما حدث قد حدث، ووصلنا إلى مرحلة اللاعودة، فقد سُلبت أرضنا، وكان لا بد من استردادها ورفع الرأس من جديد. عندها لم يعد أمامنا خيار سوى الحرب، حرب عادلة في تلك المرحلة، وخيار استراتيجي لمصر وللمصريين وللأمة العربية جميعًا. فخضنا المعركة، ودفعنا ثمنها، وانتصرنا فيها.
سأقف معكم عند لحظةٍ تتقد فيها شرارة الوعي: رغم قسوة الظروف التي حاصرتنا، ورغم الخسائر الجسيمة التي تكبدتها الدولة، ورغم ضآلة العتاد أمام ما كان بيد العدو وحلفائه، استطعنا أن نستعيد أرضنا وننتصر. لم يكن النصر وليد السلاح وحده، بل ثمرة طاقة أعمق وأقوى: طاقة الإيمان ووحدة الغاية. حين التقت إرادة الشعب والحكومة والجيش على عهد واحد؛ على قلب رجل واحد، وحين غدا الموت أهون من الحياة، وحين أصبح استرداد الأرض هدفًا جامعًا لكل من يتنفس على أرض مصر، لم يعد هناك خيار سوى العبور. وعندما اندفع المقاتلون والمدنيون جميعًا لخدمة هذا الهدف، وحين مدّ الأشقاء العرب أياديهم عونًا وسندًا، تحولت الوحدة إلى قوة أعتى من السلاح والعتاد، فتجلّى النصر.
وهذه هي النقطة التي أريد أن أُكبرها أمام أعينكم اليوم — ليست للاحتفاء بالماضي فحسب، بل لنقله إلى درس حيّ نقرؤه في واقعنا المؤلم الآن. لماذا لا نأخذ من ذلك الدرس ما يبدّد شللنا الراهن؟ لا أقصد بدعوتي هذه أن نعود إلى معركة السلاح، بل أن ننتصر داخليًا: أن تستعيد دولتنا ألقها ومكانتها، وأن تصبح أمتنا قادرة على الانطلاق نحو التقدم، بلا عوائق تقف في طريقها.
معادلة النصر واضحة، لكن تحقيقها ليس بالأمر الهين: توحيد الجهود وتماسك الصفوف، ووضوح الغاية والهدف، واجتماع الرأي، وإخلاص القول والعمل، والتفاني، والصبر، والإيمان، والعزيمة — ليست مسلّمات تُصنع بالبنادق ولا تُشترى بموازين وحسابات دولية، بل تُبنى يومًا بعد يوم بخطوات صغرى راسخة. ومشكلاتنا الراهنة، سواء كانت داخلية أم إقليمية، أقلّ ضراوة من ذلك الوقوف في وجه النار الذي واجهناه آنذاك. فإذن، لماذا نعجز عن ضبطها؟ لماذا يستبدّ بنا الوهن؟ ولماذا نخضع للضعف والتشرذم؟
ربما لأننا فقدنا ذلك الانسجام الذي يصهر الأفراد في جسد واحد، وربما لأننا أضعنا شيئًا من ثقتنا بأنفسنا وببعضنا. لذلك، إن أردنا الإجابة الحقيقية عن سؤال: «لماذا غدونا ضعفاء وتمكّن الوهن منا؟»، فعلينا أن نجيب بالفعل لا بالكلام؛ بأن نغرس ثقافة التضحية الجماعية من أجل مستقبل مشترك، وأن نوحّد الرؤية قبل أن نوحّد الجهود. عندها — ليس بالضرورة غدًا، ولكن بخطى ثابتة — سندرك أن القدرة على النهوض كانت دائمًا كامنة في أعماقنا، تنتظر فقط من يوقظها ويعيد ترتيب صفوفنا على قلب رجل واحد.
ومن هنا، يحق لنا أن نحتفل، وأن نضع الورود على أضرحة الجنود الأبطال، وأن ننحني احترامًا لكل من عاش تلك المرحلة العصيبة وتفانى فيها. لكن الأهم من ذلك أن نحمل إرث ذلك النصر، وأن ننقله إلى واقعنا الراهن. فلكل عصر معاركه الخاصة، وإن كان أبطال أكتوبر قد انتصروا لاسترداد الأرض، فإن معركتنا اليوم هي معركة النهضة والتنمية وبناء الدولة الحديثة المتكاملة.
لقد كان نصر أكتوبر ثمرة الوحدة. فلنستعد اليوم إحياء تلك المعادلة الخالدة، ولننهض بمصر من جديد، ونشيّد مستقبلًا يليق بتاريخها، وبقدسية دماء الذين بذلوا أرواحهم كي نقف اليوم شامخي القامة.
إن نصر أكتوبر لم يعد مجرد ذكرى نحتفل بها كل عام، بل غدا معادلة خالدة إلى أبد الآبدين؛ من يتقن صناعتها يحقق النصر في أي مجال، وفي أي مكان. فلنُعد إحياء تلك المعادلة بعزمٍ وجِدّ، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾. وهكذا، فإن استلهام روح النصر، والأخذ بالأسباب بقوة، هما السبيل إلى النهضة والنجاح، وهما الطريق إلى مستقبل يليق بمصر وتاريخها الممتد عبر آلاف السنين. فمصر هي مصر… وستظل مصر.