رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : جيل الخراب

في كل دول العالم عندما تهتز اليقينيات السائدة وأسس الحياة، وتنكشف الخدع الكبرى يقوم مفكرون وأدباء وفنانون بثورتهم الثقافية، اي اعادة النظر في المسلمات وفي الحقائق الجاهزة.
يقول الروائي الالماني أريك ماريا ريمارك:
” القنابل التي سقطت فوق برلين، انما سقطت فوق اللغة والمسرح والصداقة”.
على رأس من سقطت أطنان القنابل في العراق والحروب والحصارات والصراعات والمذابح وجعل القناعات القديمة مستمرة؟
أريك ريمارك مؤلف ” ليلة لشبونة” الخالدة ومن حذر من صعود النازية وأمر هتلر بحرق رواياته، يقصد ان الحياة لم تعد كما كانت بعد تعرض الوجدان والحياة الى الخداع.
هناك شعوب تستيقظ من عواصف وزلازل طبيعية، مثلا، الزلزال الذي ضرب بلدة كوبي اليابانية عام 1996 لعشر ثوان،
لكنه غير نظام الحياة وكشف عن هشاشة الأسس الانسانية وليس المادية فحسب ومخاطر الثقة بالرتابة لذلك كتب الروائي الياباني هاروكي ماروكامي روايته” ما بعد الزلزال”.
في السويد مثلا دخل طفلان قبل سنوات الى حاوية نفايات وماتا خنقاً لأن فتحة الخروج لا تسمح بذلك،
جرى في كل الدول الاسكندنافية مراجعة فتحات النفايات لكي لا تتكرر تلك الماساة،
لكننا نختنق منذ قرون في كل أنواع النفايات وصراعات ومجازر التاريخ،
ومع ذلك ننادي ليس بالمراجعة والتأمل، بل العودة الى ” الماضي”.
ما هو العنصر الجوهري الذي لجم أي تطور وعرقل أي نمو حقيقي والغى فكرة التأمل والمراجعة وصادر مفهوم الثورة الثقافية والتمرد العام والفردي؟
هذا الاستسلام الطوعي للرتابة يحدث للشعوب والافراد،
ومع الوقت والاجيال تتحول عبودية الاكراه الى عبودية طوعية معززة ومحزمة بترسانة تاريخية وحمولة هائلة من الحكم والمواعظ والعادات،
حتى يتحول الخروج من القيد الى الحرية معجزة كما في عالم أفيال السيرك
التي تربط صغيرة من أرجلها بسلاسل حديدية،
ومع رفع السلاسل عندما تكبر لكن السلاسل صارت جزءاً بنيوياً من نسيج العقل وتتصرف كما لو أنها مقيدة.
يقول “لا بويسي في كتابه” العبودية الطوعية:
“هناك ثلاثة أنواع من الطغاة، فالبعض الأول يسود عبر انتخاب من الشعب، والبعض الآخر بقوة السلاح، أما البعض الأخير فبالتوالي الوراثي. أما الذين اغتصبوا السلطة بقوة السلاح فيتصرفون بها كأنهم في بلاد قاموا بغزوها.
وأما الذين ولدوا ملوكا فليسوا على العموم أفضل مطلقا،
و الذين ولدوا وترعرعوا في حضن الطغيان، يرضعون الطغيان طبيعيا مع الحليب، وينظرون إلى الشعوب الخاضعة لهم نظرتهم إلى عبيد بالوراثة،
ويتصرفون بالمملكة وفقا لطبعهم الغالب – بخلاء كانوا أم مبذرين – مثلما يتصرفون بإرثهم”.
اذا كان العالم كله يشهد أجيالا جديدة، في كل حقبة، بل كل سنة، وربما أقل في المستقبل، من أجيال الهواتف والعوازل والمكانس الكهربائية ومن السيارات،
ومن ادوات الحلاقة، والدراجات الهوائية والقطارات والطائرات،
ومن الساعات والاحذية والجواريب والملاعق والطاولات والكراسي والنقاد والمناديل والحفاظات، بل حتى ولادة جيل Z التمردي الذي ولد ما بين منتصف تسعينات القرن الماضي واوائل القرن الواحد والعشرين الذي يستعمل تكنولوجيا الاتصالات الحديثة والمنصات والانترنيت في كثير من الدول،
فلماذا لا نشهد نحن في العراق ولادة جيل جديد من ” الساسة” ومن المفكرين والعلماء بدل جيل جديد من اللصوص والعلاسة والمكبسلين والمفخخين والنصاب والسيكوباتي والمنتفخ؟
اذا كنت تريد ان تستحم بالشتائم والتهم وكل ما في العالم من لغة فجة عفنة حاول الدخول والمشاركة في صفحة أحد هؤلاء وسوف تحتاج الى كمامات واقية من الجيف لكي تقرأ والى سبعة بحار لكي تتنظف والى الف قطعة موسيقية لكي تنسى والى محل باريسي من احدث العطور لكي تنظف الرائحة.
من أين يأتي هذا العفن ومن أي قاع وبيئة حاضنة؟
لماذا نحن أمام جيل واحد يتوارث السياسة والسلطة والعدالة والقسوة ،
وفيه ظهرت الى الوجود عوائل حزبية لا تقوم على أساس الكفاءة والقدرة والتضحية بل الصيت العائلي والقبلي ووصل الامر أمس الى مهاجمة وتهديد منزل الكاتب غالب الشابندر بأمر من شيخ قبيلة رئيس الوزراء بسبب وجهة نظر؟
كيف يمكن تخيل ان كل شيء في العراق قد تحطم،المؤسسات والعلاقات والعمارات والأشجار والانهار والارصفة وأعمدة الكهرباء، لكن اللغة ظلت كما هي منيعة على التغيير؟
في كتاب كيت داوت ” فهم الشر، دروس من البوسنة” تحدث عن ثلاثة أنواع من ” إبادة المجتمع” لتخريب أي دولة طبقت في العراق وسوريا وليبيا:
1 :ابادة المجتمع بهدم الأسس الأخلاقية التي يقف فوقها وليس قتل النساء والاطفال لكي يشعر الجميع بالغربة والخوف والكراهية من بعضهم،
2: والابادة الجماعية بالتحريض على جماعة والتشكيك بهويتها وانسانيتها لكي تتحول الى خطر وحيد ونسيان كل المخاطر،
و3 ابادة المنزل وهو الاخطر ليس من خلال نسفه وتخريبه بل من خلال “فقداد هيبته” وتحويل المنزل الى دار استباحة اخلاقية وهدم كل الروابط الاخلاقية بين الافراد، وفقدان هيبة المنزل مقدمة لفقدان هيبة المجتمع لأنه النواة بعد ان تتفسخ وتتعفن الروابط المقدسة العائلية وتصبح الخيانة وجهة نظر .
بدل ولادة جيل تمردي ، ولد جيل يزحف في الوحل بناء لطقوس دينية لان أفضل طريقة للسيطرة على شعب جعله يشعر بالإثم عن جرانم التاريخ والآثم لا يحتاج العدالة ولا الحرية بل يحتاج الغفران التخيلي.
ـــــــ الصورة: لوحة غلاف” ما بعد الزلزال” للروائي الياباني هاروكي موراكامي.
كان كل شيء ساكناً الساعة 5:45 صباح 17 كانون الثاني عام
1995 في بلدة كوبي اليابانية، لكن بعد أقل من دقيقة تغير شكل اليابان بصورة حاسمة، زلزال مدمر ضرب البلدة وعصف بها وبجسورها
وعماراتها المقاومة للزلازل وتبعه عصف مائي وامطار وموت أكثر من 6 آلاف وصار ارتفاع المياة يصل للطابق الخامس، قيامة كبرى.
كشف الزلزال عن الوجه الآخر للحياة: سرعة انكسار وهشاشة الحياة وخداع المظاهر. عشر ثواني غيرت تاريخ اليابان. الشعب الحي يستجيب للتحدي ولا يتداعى. المحن تكشف أسس المجتمع صلابةً أم خواءً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى