أنس دنقل يكتب :جدتي والموت..!!

_1_
بوووووه..المرحوم مات..
لن احدثكم عن الموت بمفهومه الديني أو الفلسفي..لكن عن طقوس الموت في بلادنا قديما والتوقعات المرئية للموت مستقبلا..
منذ مايقارب الخمسين عاما..كان خبر موت أي فرد في قريتنا يعني : إعلان الحداد في عموم القرية..إغلاق جميع محلات البقالة..الراديوهات..أعمال البناء والهدم..الزواج ..طهور الانجال..قانون مندل للوراثة..لعب الحجلة ..صلح..مص القصب المسروق من الحقول المجاورة..اكل الزفر. .الاستحمام..حلاقة الدقن..ارتداء الجلاليب الفاتحة أو الخفيفة..اقتراب ذكور الارانب لجحور الطيبات ..اكل البيض المقلي..شرب اللبن بكسرة الخبز !!
هذه الأمور مجتمعة ممنوعة اربعين يوما إذا كان المرحوم من عوام الناس..
عام كامل اذا كان من اقطاب البلاد زعماء حركة عدم الانحياز !!
تواريخ وفيات الاعيان مراجع لأهم الأحداث التاريخية مثل : موت حمار العمدة ..انشاء حنفية مياه عمومية ..تجديد ميضة الجامع .. نجاح ابن احد مشايخ القرية في دبلون الصنايع !!
بروتوكولات تشييع الجنائز :
بالاضافة للعديد والمراثي المنشدة في ذكر محاسن الراحل الكريم تنشدها هوانم العائلات _ لا يختلفن كثيرا عن هوانم جاردن سيتي في المسلسل التليفزيوني القديم_
يقمن بعمل مخمرة طين معتبرة تتناسب طرديا مع ارتفاع شأن المرحوم في البلاد !!
كل من تحضر وجب عليها ان تتطين من رأسها حتي أخمص قدميها ( سلف ودين ..يوم عندك ويوم عندي!! )
تصرخ المشيعة القادمة بأعلي صوتها باكية نائحة : سايبنا ورايح علي فين ياجمل؟.. يعني يابت الكلب رايح ع السيما.. مش عارفة رايح علي فين ؟؟ !! جهنم عدل !!
اتذكر. :يوم وفاة جدي لوالدتي _ أكتوبر 1956_متزامنا مع العدوان الثلاثي علي مصر..حضرت كل هوانم القرية والقري المجاورة ..اضافة لممثلات كوتة المرأة في القري الابعد. .إلا امرأة وحيدة لم تحضر ولم تعتذر!!
انتظرت جدتي حضورها أربعين يوما للاعتذار ورد الواجب..لكن بنت الكلب مصت علي خبر موت جدي العظيم لمونة. .كأن المرحوم كلب من كلاب السكك!!
كادت جدتي ان تنسي فعلتها الشنعاء لولا “لطيفة” احدي مساعدات الجدة في الأعمال المنزلية الشاقة التي تتطلب خبرات لوجستية عالية كتلطيخ الختي ( الجلة ) علي حوائط أحواش البهايم..احماء الفرن البلدي.. النفخ في الكانون ..مع ملاحظة ان طول “لطيفة” أربعة متر .. وطول ذراعها اتنين كيلو..انيابها نص متر !!
( ليست لطيفة المطربة التونسية الشهيرة ضئيلة الحجم ..لكن لا تقل عنها شهرة في مجالات اخري كضرب الزنب..إشعال الفتن وخراب البيوت )
هذه الطيبة اللطيفة أثناء قيامها بقرطفة أوراق الملوخية المجلوبة من الزرعة القريبة..ذكرت جدتي بفعلة هذه المراة الشنعاء!!
اضافت أن المذكورة بصفتها حافظة لكتاب الله تنتقد ما يحدث بالجنائز.. بالذات عملية التطيين.. تقول ان هذا كفر والعياذ بالله واعتراض علي مشيئته !!
عندما سمعت جدتي هذا البهتان..ركبها مائة عفريت نتاية وخمسين قرد دكر !!
ألقت أكوام الملوخية جانبا..ربطت وسطها بحبل ليف متين..ارتدت بردة الخروج..اخذت معها عصي المرحوم جدي العوجة التي يقابل بها علية القوم كصراف القرية وبلوكامين المركز ووكيل مشيخة الخفر..تتبعها مساعداتها الفاتنات !!
اولهن هذه اللطيفة الجميلة..يللا ورايا يا بنات الكلب..حي علي الجهاد !!
كان هذا الموكب بمثابة إعلان للحرب والجهاد المقدس!!
(بما يذكرنا بحرب المملكة السعودية علي دولة اليمن الشقيق )..
بالخطوة السريعة النشطة..وصلت الطلائع الثورية لبيت الناشطة الحقوقية..أمرت المساعدات الفاتنات بإعداد وتجهيز أكبر واحدث مخمرة طين في تاريخ البشرية تم ذكرها ضمن موسوعة جينس !!
خبطت بعصي المرحوم علي باب بيت المثقفة التنويرية(فاطمة ناعوت القرية!!)..
بيدها الأخرى الكريمة امسكت فردة حذائها المخصصة للأعمال الشاقة الانتحارية..صاحت بصوتها الجهوري:
انزلي ياهليكة يابنت الهليك..ياقطونة يابنت القطون!!
( القطون سكان مصر الأصليين ممن اعتنقوا الإسلام تهربا من دفع الجزية!! )..
اقتحمت البيت..أحضرت المسكينة من شعر رأسها قائلة :
اطيني علي سيدك وسيد ابوكي يابنت الكلب..ده انا يوم موت ابوكي المعفن اللي عاش ومات ماغسل رجليه. .جيت بنفسي واطينت عليه..دلوقتي تقولي عليا كافرة يابنت الكلب.. ياللي جدك نطق الشهادة بضرب المركوب !!
اقروا معايا الفاتحة علي روح المرحومة “ستي”.. استاذة في إعلان الحرب علي ضرائرها المستكينات..القاء موشحات الهجاء منافسةأعضاء الفرقة الموسيقية لرتيبة الحفني رحمهما الله!!
لم تتركها الا بعد أن تطينت ..ساس وراس..بكت ..صرخت نائحة علي زينة الرجال..معددة مناقبه المعروفة للجميع..اكثر من ساعتين !!
جدتي مش غلطانة.. تطبق قواعد الإتيكيت والقانون الدولي كما تعلمتها في بيوت المجد والاكابر:
المعاملة بالمثل بين الدول !!
الجدة العزيزة..عاشت وامتد بها الاجل حتي السبعينات ..سنوات الانفتاح الاقتصادي..وهنت عظامها..فقدت صولجانها القديم..جلست في ركن البيت البعيد مهملة ..متدثرة ببردتها القديمة..تنظر وتتعجب ولاتتكلم!!
عندما مات أصغر اخوالي. .عافت نفسها الطعام أكثر من ثلاثة ايام!!
حضرت المثقفة الثورية سالفة الذكر..قرأت علي رأس جدتي بعض من آيات القرآن لتذهب عنها تلبيس الشيطان ورفضها الطعام ..قائلة :
اللي بتعمليه ده ياحاجة حرام..مايرضيش ربنا..انت حجيتي بيت ربنا..حطيتي ايدك علي شباكه..كلي لك لقمة تسندي بيها نفسك..المرحوم نفسه ميرضاش بكده!!
جدتي نظرت لها متحدية غاضبة :
اكل بعد الغالي ؟؟!!..يحرم عليا الزاد..سيبوني اموت .
لتدخل في وصلة بكاء ونحنحة طويلة ممااغري المثقفة الطليعية للتعاون مع زوجات الاخوال للتدخل لاطعامها بالقوة وانهاء الاضراب !
يكشفن اغطيتها ليتدفق منجما من الحلاوة الطحينية والنوجا والحلاوه العسلية والبيض المسلوق مخبيء بين طيات ثيابها!!
يكتشفن ملعوب المرأة الكافرة : كانت طيلة ايام اضرابها السابقة تاكل بدل العيش ..ملبن علي روح المرحوم !!
استدراك
سقط سهوا من نعي المرحومة جدتي :
حفيدة اللواء ا.ح عبدالله بك بن أبي سلول كبير منافقي يثرب..بنت أخ عمرو باشا هشام الملقب بابي جهل..بنت شقيقة هند آكلة الاكباد. .شقيقة ام جميل حمالة الحطب التي في جيدها حبل من مسد..لذا لزم التنويه!!!