رؤي ومقالات

دراسة نقدية / التحليل التفكيكي النصي للشاعرة نازك مسوح

#التحليل #التفكيكي #النصي
للشاعرة نازك مسُّوح: دراسة في (الرقصُ على الحبالِ المتقطّعة)

#النص:

الرقصُ على الحبالِ المتقطّعة

لاحَ وجهُ صباحيَ المُكفهرِّ

يشدُّه حبلٌ بينَ غيابينِ و يقظة….

شرعَت أحلامي المهاجرةُ نحوَ المجهولِ تتركُ ندوبًا

وُلِدت صمّاء بكماء …

يغزو حوافّها وجعٌ صارمُ الوخز،

أعيَا رسوخُها الجرّاح،

و لم تبلسمْها الحِجامة،

غادرتني تروي قصّةً مثبتةَ الأثر

شقّت طريقَها تقصدُ قيامةَ زمنِ الحزن،

فحلّقَت طيورُها في ذيّاكَ الأفق

لتعلنَ على الملأِ النفير،

وتُفلِتَ أهاتٍ تحملُ تفاصيلَها،

تمارسُ سحراً ينقضُ المواثيقَ…

هي لا تنوي عقدَ صلحٍ مع الغمام،

ولا تقدّمُ فروضَ الطاعةِ لملكةِ السماء

بل تبغي دقَّ رقبةِ ركامٍ

جثا على صدرِها طويلاً

أثقلَ كاهلَ ليلِها المحمومِ

ثم التهمَت رحاهُ أكوامَ الظنون،

فرضيَت بالغربةِ وقطعِ صلةِ رحمِ الشفاء،

انفصلَت وحلَّقَت بعيدًا بعيدا..

وفي نفسِها شيءٌ من حرائقِ الروح!

كم تعثّرَ خطوُها!

كم تبعثرَت خيوطُها عندَ الغروب!

ولسانُ حالِها يقول:

“ياليتني متُّ قبلَ هذا وكنتُ نسيًا منسيّا”

نازك مسُّوح
#المدخل #البنيوي
حين نلجُ نصاً شعرياً محمولاً على طاقة رمزية كثيفة مثل نص أ. نازك : (الرقص على الحبال المتقطّعة) فإننا لن ننظر إليه كخطاب لغوي فقط لكننا ندركه كـ(فضاءٍ دلالي) فاللغة فيه تعيد صياغة علاقتها بالوجود عبر التوتر في السياق النصي /بين الغياب والحضور والانكسار والقيامة والحلم والخذلان/
إن هذا النص لا يُعطي نفسه بسهولة لكنه يفرض علينا أن ندخل إليه من بوابة التأويل العميق إذ أن الكلمة لم تتجسد كحامل للمعنى لكنها أيقونة متشظّية تفتح آفاقاً من التأويلات المتراكبة
#المقدمة: نحو تأويل سيميائي
#العنوان: (الرقص على الحبال المتقطّعة)
العنونة هنا برؤيتنا لم تكن تسمية بريئة للنص لكننا نراها مفتاح تأويلي ينصّب ذاته كبنية أولى تسبق الجملة الشعرية ويحيل إلى وضعية وجودية مأزومة:
فهو حركة (رقص) فوق هشاشة (حبال) لم تعد متصلة بل متقطّعة
فالرقص رمز الحرية والاحتفال يصطدم بالحبال التي توحي بالشدّ أو القيد ثم بالانقطاع الذي يحيل إلى هاوية
إننا إذاً إزاء صورة استعارية كبرى تختصر المصير الإنساني بين الرغبة في التحليق وبين انقطاع السند من هنا فإن النص في عمقه هو تدوين لرحلة الوعي في فضاء من الخسارة والبحث عن قيامة
#البنية النصية وسيميائيات الغياب
نرى أن النص يفتتح بمشهد فجائعي:
(لاح وجه صباحي المكفهرّ يشدّه حبل بين غيابين ويقظة)
فالصباح عادة علامة على الانبلاج والنور لكنه بالنص يتبدى ب(مكفهر) أي أنّه وُلد منكسراً منذ البدء
فالحبل الذي يشدّه بين (غيابين ويقظة) يحيل إلى أسر الزمن
وإلى المراوحة بين لاماضٍ ولامستقبل إنها يقظة معلّقة بين غيابين فلذلك هنا تتجلّى وظيفة السيمياء الزمنية حيث أن الغياب لم يتمظهر كحالة لكن كبُنية مسيطرة تسحب اللغة إلى حافة الفقد
ثم نرى مثلاً (أحلاماً مهاجرة نحو المجهول) إنها كما ندركها أحلام مثقلة بـ(ندوب)
وإن الهجرة عادة حركة نحو الانفتاح لكن النص يقلبها إلى هجرة جريحة- معلّقة -صمّاء -بكماء مطبوعة بالوجع
لذلك نرى أن النص يعمل على قلب التوقعات
إذ تتحول الوظائف الإيجابية (الصباح- الهجرة- الأحلام) إلى بنى سلبية مقموعة
#المسار الرمزي: القيامة كهاجس
إن النص في انعطافات السياق يتصاعد نحو لحظة قيامة:
(غادرتني تروي قصة مثبتة الأثر، شقّت طريقها تقصد قيامة زمن الحزن)
لكن القيامة هنا لانعزوها للمعنى الديني المباشر إنما نحيلها لتوصيف انبعاثي رمزي للحزن ذاته:
أي إلى قيامته لا موته
أي أن النص لا يَعِد بالخلاص لكن يعيد الحزن إلى المسرح بوصفه الكينونة الغالبة والطيور التي تحلّق في الأفق وتعلن النفير هي علامات على صرخة جماعية لكنها تبقى مقيدة بذاكرة الألم
#تفكيك البنية الخطابية
نجد أن النص يتعامل مع أقطاب متضادة:
الحلم / الندوب
الصبح / الاكفهرار
الطيور / الركام
النوافذ / الظنون
فلو تمعنا أكثر فإن هذا التوازي لا يعمل على نحو ثنائي جامد لكنه ينفتح على جدلية دائمة بحيث كل صورة تنقض أختها وتعيد إنتاجها
وهنا تبرز براعة الشاعرة وقوة النص : أي أنه لا يقدّم صورة واحدة نهائية لكن يتركنا في حالة تأويل مفتوح من خلال تنقلات الشاعرة المجازية التي تؤكد على اقتدارها الشعري العالي
#سيميائيات العنوان
العنوان نفسه (الرقص على الحبال المتقطّعة) يوازي البنية الداخلية للنص فكل حركة داخل النص مشدودة بخيط يوهم بالتماسك ثم ينقطع
اللغة نفسها تمارس هذا الرقص:
تبدأ بإيحاء حياة (صباح- حلم -طير) لتسقط مباشرة في انقطاع (اكفهرار- ندوب ركام)
إذاً إن العنوان لا يعلو على النص لكنه يشتغل كـ(مجاز مرآوي) يعكس جوهره
#القراءة الفينومينولوجية (الظاهراتية)
إذا اقتربنا من النص من زاوية فينومينولوجية نكتشف أن النص يصف
تجربة معيشة للذات لاكدلالة وقائع خارجية لكن عبر كيفية الوعي بها
فالألم هنا لم نراه حدثاً إنه طريقة وجود وقيامة داخلية للغياب ذاته
فلو تأملنا هنا نلمس أن النص يفتح ذاته على بعد وجودي عميق:
فالذات وهي ترى ذاتها محاصَرة بين ندوب الحلم وقيامة الحزن تحاول أن ترقص لكنها تسقط دائماً في الفراغ
#تحليل البنية والسياقات:
البنية النفسية والوجودية:
إن النص يبدأ بصور الفقد والانكسار: (شرعَت أحلامي المهاجرة نحو المجهولِ تتركُ ندوباً) نشاهد تحرك الأحلام ككيانات مستقلة تمثل النفس المقسمة والهاربة والمشتتة بين الماضي والحاضر والمجهول
نلحظ استخدام الصفة (المهاجرة) يضيف بعده الحركي والاستعاري للغربة الداخلية
ونكتشف أيضاً أن الأحاسيس هنا ماكانت فقط كشعور لكن كحالة كينونية
#السيميائية النصية: الحبل بين الغيابين:
إنه رمز للتواصل المشروط وغير المستقر للعلاقة بين الذات والزمان وأيضاً نجدها بين الروح ومحيطها
#الجرّاح والحجامة: فالحِجامة التقليدية كرمز للشفاء لا تصلح هنا لدى الشاعرة التي تمسك بزمام السياق فالجرح صارم والخيبة عميقة مما يعكس رفض النص للوسائل التقليدية لمعالجة الروح وتقديم الذات في حالة مقاومة مستمرة للمعايير الخارجية
#الطيور في الأفق:
تتحرك الطيور لتعلن عن النفير أي انبعاث الصراخ الداخلي ونحيل ذلك للرغبة في الإفلات من القيود لكنها أيضاً تحمل الحرائق الداخلية أي الصراع مع الذات والغياب
#السياقات الرمزية والاجتماعية:
إن النص في حيثياته يعكس حالة من الانفصال عن العالم التقليدي بل عن الأعراف وعن (ملكة السماء) أي نظام القيم التقليدية والروحانية المألوفة
ونوقن من كل ذلك أن الفعل الشعري للنص يقوم على التمرد الرمزي: (هي لا تنوي عقدَ صلحٍ مع الغمام ولا تقدّم فروض الطاعة)
فالغياب هنا لم نراه كغياب جسدي فقط
نوجهه لغياب فلسفي فهو غياب عن المرجعيات المعهودة والانعتاق من التقييدات
#توزيع الزمن والحدث:
ندرك أن النص من خلال الوحدة النصية يسرد أحداثاً داخلية متشابكة تتقاطع مع الزمن الخارجي والداخلي للوعي: (كم تعثّرَ خطوُها! كم تبعثرَت خيوطُها عند الغروب!)
إذ أننا نرى هنا أن الغروب ماهو بلحظة يومية فقط إنما يمكن إحالته للحظة رمزية للنهاية والانتقال
وأيضاً للضياع والانكسارلكنه في الوقت ذاته يولّد الوعي بالذات
#التكرار والإلحاح:
بالتفاتة إلى تكرار الأسئلة والاستفهامات الداخلية وسرد الأحداث النفسية المتقطعة نجد أن السياقات تعزز الإحساس بالتشتت الداخلي كما أن الكلمات المشحونة بالحرائق والوحشة (شيءٌ من حرائق الروح) تنشئ متاهة وجدانية بحيث تتحرك الذات بين الانكسار والانفلات وإلى الغربة الداخلية وإمكانية الخلاص
#الارتباط بين النص والعنوان:
الرقص على الحبال المتقطعة لايتجسد كوصف لحركة جسدية بل لتوازن الوعي بين الحاضر والماضي والذاكرة والخيال وإلى النفس والواقع فالعنوان يصبح بذلك رمزاً مركزياً للبنية السيميائية: ولهشاشة التوازن الروحي وصعوبة مواجهة الغياب والفقد والمجازفة الداخلية للشاعرة
#الخاتمة
إن قصيدة الناصة العميقة والمغايرة (الرقص على الحبال المتقطّعة) هو نص مفتوح على احتمالات التأويل غني بالطبقات الرمزية ومُحمّل بطاقة وجودية تشدّنا إلى تجربة ذاتية شديدة الكثافة
فلقد استطاعت الشاعرة أن تحوّل الألم الفردي إلى خطاب شعري متشظّ يجمع بين الفجائعية والبحث عن قيامة لا تأتي
إن العنوان نفسه علامة كبرى تحكم النص بحيث أن الرقص (كفعل حياة) يبقى معلقاً على حبالٍ منقطعة (كفعل موت)
وبهذا تكون أ. نازك قد قدّمت نصاً مجدداً في بنيته ورموزه نصاً لم يكتفِ بالتصوير إنما مارس فعلاً نقدياً ضد اللغة ذاتها إذ يجعلها تتعثر وتنكسر وتقوم من جديد في سياق دائري من الغياب والقيامة إنها قصيدة تضع المتلقي أمام مرايا متقابلة لا تعكس إلا صدى الحيرة
وبذلك تثبت الشاعرة مكانتها كصوت إبداعي عميق يجدد في اللغة والرؤية معاً
كل التحايا
#مرشدة #جاويش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى