رؤي ومقالات

حسام السيسي يكتب :الجيش المغربي في مواجهة الداخل: من الصحراء الغربية إلى أزقة المدن… شرعية على المحك

في شوارع الدار البيضاء وطنجة وسلا، وبين الأزقة الضيقة في فاس، لم يعد المشهد مقتصرًا على عربات الشرطة والدرك، بل دخلت ناقلات مدرعة فرنسية الصنع من طراز VAB يقودها جنود اعتادوا حتى الأمس القريب مواجهة مقاتلي البوليساريو في الصحراء الغربية.
هؤلاء الذين ظلوا لعقود على خطوط المواجهة ضد خصم خارجي، وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة أبناء جلدتهم، وسط موجة احتجاجات شبابية غير مسبوقة قادتها حركة GenZ 212. والمفارقة هنا أن جيشًا لم يستطع منذ قرون استعادة سواحله المحتلة من القوى الأوروبية، يجد رجولته فقط في قمع شعبه الأعزل، مطيعًا لإملاءات «المخزن» الذي يحوّل القوة العسكرية من جبهة التحرير المزعومة إلى أداة لإخماد أصوات تطالب بالصحة والتعليم والكرامة.
بدايات الحراك لم تكن أكثر من مطالب اجتماعية بسيطة: مدارس أفضل، مستشفيات أقل انهيارًا، وفرص عمل تحفظ كرامة الشباب. لكن سرعان ما انتشرت الشرارة عبر منصات TikTok وInstagram، لتمنح جيلًا جديدًا صوته الخاص، بعيدًا عن قوالب الأحزاب والنقابات التقليدية. في غضون أيام، خرج الآلاف من طنجة إلى العيون، معلنين أن الصمت لم يعد ممكنًا. هذه التعبئة الرقمية، التي جمعت بين السخرية الجريئة والقدرة على الانتشار الفيروسي، أربكت السلطة التي لجأت أولًا إلى الاعتقالات وقطع الإنترنت في بعض المناطق، ثم إلى استدعاء الجيش نفسه لدخول المدن.
ظهور ناقلات VAB في الأحياء السكنية كان لحظة صادمة. الصور والفيديوهات التي انتشرت عبر المنصات أوضحت مشهدًا غير مألوف: مدرعات في شوارع مكتظة بالمدنيين، جنود مدججون بالسلاح، واعتقالات عشوائية. منظمات حقوقية دولية كالعفو الدولية وهيومن رايتس ووتش أعربت عن قلقها من «الاستخدام المفرط للقوة» و«انتهاكات ضد محتجين سلميين». الأخطر أن هذه الوحدات التي ظهرت في المدن يُرجح أنها نفسها التي كانت متمركزة في الصحراء الغربية ضد البوليساريو، ما يكشف إعادة توجيه القوات من نزاع خارجي إلى مواجهة داخلية مباشرة.
المنطق الأمني لدى النظام المغربي واضح: هذه الوحدات مدرّبة، معتادة على بيئات قتالية قاسية، ومجهزة بعتاد مدرع. لكن إدخالها إلى الداخل يبدّل موقع الجيش من «حارس حدود» إلى «شرطي داخلي»، وهو ما يضع المؤسسة العسكرية في مواجهة مباشرة مع المجتمع، ويؤدي إلى خسارتين متوازيتين: صورة جيش عاجز عن حماية السيادة من الخارج، ومؤسسة تستقوي على مواطنيها في الداخل.
غير أن الأزمة المغربية لم تعد شأناً داخليًا بحتًا، فالفضاء الرقمي يجعلها قابلة للتدوير والتأثير في محيط مشابه. الأردن، مثلًا، يعيش ظروفًا اقتصادية خانقة وشبابًا يائسًا من انسداد الأفق، مع نظام ملكي يقدّم نفسه كضامن للاستقرار. إذا تابع شباب الأردن كيف انتظم أقرانهم المغاربة في شبكات رقمية خلّاقة، فقد يجدون الإلهام لتجربة مشابهة. وفي المقابل، قد تلجأ الأنظمة الأخرى إلى استعارة «النموذج الأمني المغربي»، بإدخال الجيش إلى المدن كرسالة ردع، ما يضاعف احتمالات الاحتكاك الدموي بين العسكر والشعب.
جوهر السؤال إذن يتجاوز حدود المغرب: إلى أي مدى تستطيع الأنظمة الملكية في المنطقة أن تحافظ على شرعيتها حين تتحول جيوشها من مؤسسات وطنية ضامنة للأمن إلى أدوات قمعية ضد مواطنيها؟ فالملكية المغربية، التي تسوّق نفسها منذ عقود كحامي الاستقرار، تجد نفسها اليوم أمام معادلة خطيرة: استقرار هش يُفرض بالدبابات لا بالثقة الشعبية. الشرعية الحقيقية تُبنى على تلبية احتياجات الناس، لا على إخماد أصواتهم.
المغرب اليوم مختبر مفتوح لمعادلة خطيرة: شباب غاضب، مؤسسات متخشبة، وجيش يُستعمل في الداخل بدل مواجهة التحديات الخارجية. هذه المعادلة مرشحة للتكرار في ممالك أخرى إذا توافرت الشروط نفسها. والسؤال لم يعد إن كانت «العدوى» ستنتقل، بل متى، وكيف، وبأي ثمن ستدفعه الشعوب والأنظمة معًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى