تقارير وتحقيقات

غزه:طابور التكيه بين الجوع والموت والانتظار

تقرير ميداني:

مع أول ضوء فجرٍ باهت في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تبدأ الأقدام الصغيرة بالتحرك قبل أن تفتح التكيه أبوابها.
أصوات الأحذية البلاستيكية المتآكلة تختلط بأنفاس الصباح البارد، ويصطفّ الأطفال في طابور طويل عند زاوية الشارع المؤدي
إلى مكان توزيع الطعام المطبوخ، وهو واحد من المبادرات القليلة التي ما زالت تعمل رغم شح الموارد والخطر الدائم.

هناك، يقف العشرة قبل الخمسين، ويتكئ الصغار على الجدران المتهالكة، يحملون أوعية فارغة أو قدوراً صغيرة،
يرقبون الدخان المتصاعد من المطبخ كأنه نافذة أمل. لا يصطفّون حباً بالانتظار، بل خوفاً من العودة إلى البيت بلا وجبة.

في مقدمة الطابور، يجلس قصي ذو التسعة أعوام على صندوق بلاستيكي مكسور، يحتضن أخته الصغيرة ذات الستة أعوام،
ويهمس لها: «استحملي شوي، رح يطلع دورنا». يرفع رأسه بين حين وآخر ليتأكد أن المكان ما زال محفوظاً،
يخشى أن يفقد موطئه كما فقد قبل أيام حصة العائلة بعد تزاحم الكبار.

المشهد أمام التكيه أشبه بصف من الأجساد الصغيرة المتعبة التي تحمل الجوع على أكتافها.
كل واحد منهم يجر كيساً أو وعاءً بلاستيكياً بانتظار “الوجبة المجانية” التي تُطبخ بما توفر من عدس مسلوق، أو حمص مهروس،
أو بضع خضروات تُغلى مع ماء كثير حتى تبدو كالحساء أكثر من كونها طعاماً.

اقتربت من ولد في الثانية عشرة، اسمه حسام. كان يحتضن إناءً معدنياً صغيراً وينظر بخوف نحو السماء. قال لي:
“بدنا نرجع بالطبخة، أمي مريضة وما في أكل بالبيت… بس بخاف، كل يوم بنسمع عن قصف الطابور.”

إحدى النساء أشارت إلى فراغ في المكان: “هنا قبل أسبوعين وقع الصاروخ، استشهد طفلين وأصيب ثلاثة وهم جايين ياخدوا أكل.
حتى الأكل صار معركة مع الموت.”

أمام باب التوزيع، يقف متطوع شاب يحاول ضبط النظام. وجهه متعب، وملابسه مرقعة ببقع العدس. قال لي:
“المشكلة مش بس قلة الأكل، المشكلة القصف… مبارح استهدفونا وإحنا بنوزع، استشهد زميل إلنا.”

المشهد يلخصه صوت طفل في الطابور: “الجوع والموت… الاثنين بنستناونا في نفس المكان.”

مع كل ساعة انتظار أمام التكيه، يصبح الزمن أثقل من قدرة الأطفال على احتماله.
لم يعد الانتظار يعني فقط الوقوف في الطابور الطويل، بل صار معادلاً لمعادلة مرعبة:
هل سيعودون إلى بيوتهم حاملين قدراً من الطعام، أم سيُحملون على الأكتاف بعد قصف جديد؟

إحدى السيدات، أم لخمسة أطفال، قالت لي والدموع في عينيها:
“أحياناً بشوف ابني الصغير ماسك القدر وبستناه حصته، بقول لحالي: ليش ييجي يوم يوقف فيه طفل صغير عشان كاسة شوربة؟”

منظمات دولية، كبرنامج الغذاء العالمي والأمم المتحدة، حذرت مراراً من أن أكثر من 80% من سكان غزة يواجهون انعدام الأمن الغذائي،
وأن مئات الآلاف باتوا على حافة المجاعة. تقرير أخير لـ”أوتشا” أشار إلى أن طفلاً واحداً على الأقل يموت كل يوم بسبب سوء التغذية
ونقص الدواء. لكن هذه الأرقام تتحول هنا إلى وجوه حقيقية، إلى دموع على خدود أطفال ما زالوا يتعلمون الأبجدية.

في نهاية اليوم، لمحت مشهداً يلخص القصة كلها: ولد يرفع بيديه إناءً صغيراً مغطى بقطعة قماش، يمشي بخطوات سريعة،
يبتسم رغم أنه يعرف أن ما يحمله لن يكفي العائلة كلها. لكنه يبتسم فقط لأنه عاد ومعه شيء…
شيء يمنح البيت لحظة أمل في مواجهة جوع بلا نهاية.

هنا في مخيم النصيرات، لم يعد الطابور مجرد انتظار. إنه عنوان للزمن كله: زمن الجوع، زمن الموت، وزمن الصبر.
الجوع والموت… والانتظار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى