حمزه الحسن يكتب :مثقف واحد بأقنعة مختلفة

ـــ أنا غير مستعد للموت في سبيل أفكاري لأنها قد تكون صحيحة اليوم وخاطئة غدا* برتراند راسل.
اشتراكيون، يساريون، قوميون، متبريلون، عقائديون الخ مثقف واحد باقنعة مختلفة.
جميعا يؤمنون بقدسية وحرفية النص وزمن التاسيس والمؤسس وحيازة السلطة كعقار ومُلكية وغنيمة واعتبار المختلف عدواً أو منحرفاً لانهم الكمال المطلق في مواجهة النقص المطلق.
كل تراث هؤلاء حيل ومؤامرات ودسائس والتباهي بالفلقة والسجون والهروب وعدد الشهداء بلا ثورة في حين كان العقداء الاجلاف يقومون بانقلاب تلو الانقلاب ويقودون هؤلاء من البيوت والحانات والمقاهي الى السجون . ليست هناك مدرسة سياسية عراقية أو عربية بتقاليد في تداول السلطة بالاقتراع الحقيقي العام ولا دستور باستفتاء ولا استقلالية سياسية بل تبعية غالبا ما تنتهي بكارثة.
نظم حكم لا تعرف شعوبها إلا من تقارير المخابرات والزبائن والانتهازيين المكيفة لارضاء الحاكم الذي يصدم في لحظة غليان وتمرد وعصيان عام وانتفاضية بحقيقة مختلفة للشعب الذي حكمه سنوات.
منذ صدور هذا الكتاب ” نهاية الداعية: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين” للبروفيسور المغربي عبد الاله بللقزيز منتصف التسعينات وهو موضع تناول وبحث الاوساط الثقافية والعلمية والبحثية العربية ليس من بينها الاوساط العراقية لاسباب من بينها ان الكتاب صدر في زمن دكتاتورية تغذي في المثقف نزعة الداعية والمبشر والمهرج، ومن بينها الحصار ـ الابادة .
وربما يكون أحد الاسباب ان المثقف العراقي، في السلطة او المعارضة، وتحديدا الداعية لم يعد قادرا على تغيير القناعات وان كان ماهرا في تغيير القناع بل حتى حملات تشنيعه على خصومه لم تتطور وظلت سوقية كهتك العرض والسوية والهروب من حوار رصين ومهذب لأنه يتطلب مهارة وثقافة وكفاءة في حين التشهير لا يحتاج ذلك بل يحتاج كمية وافرة من انعدام الضمير والوعي والابتذال.
كالعادة لم يسلم مؤلفه من حملات الردح لأنه طالب بتجديد وعينا ومراجعة تفكيرنا بعد الخيبات والويلات والفشل والهزائم في كل شيء حتى في أن نبقى أحياءً.
هذا الكتاب كشف” وفضح لكمية الاساطير والاوهام والادعاءات والمهام والمشاريع التي انطوى عليها خطاب ما يسمى” المثقف العربي” والرسالة الكونية التي نسبها لنفسه في تغيير الحاضر واعادة كتابة التاريخ وصياغة المستقبل لكن التجارب اثبتت افلاسه لغةً ودوراً وفكراً ولم يعد يملك غير البوم الصور القديم وذكريات هروب واختباء في التنانير التي عاد يطالب بسببها براتب خدمة نضالية مع انه دافع عن حريته وكرامته ولا يستحق الأجر، كما لا يستحق الطائر ثمن تغريده ولا الغيمة لأنها تمطر ولا النجوم لانها تضيء ولا الانهار لانها تجري.
كان صاحب سردية بائسة مدرسية شعاراتية أسبغ عليها هالة من العظمة والحصانة والقداسة وصار الاقتراب من نقدها نقداً للحياة والحقيقة والتاريخ كما لو انه دين جديد مع ان الأفكار متغيرة.
كانت مروياته تنتهي دائما اما بحمامات دم او تصفية حسابات بلغة” نقدية” في الظاهر لكنها شرسة وفظة وسوقية وكلبية بعد الحفر خلف الكلمات، بتعبير بلقزيز” وتتداخل فيها مفردات السب والشتم تداخل انياب الكلب حسب وصف ماوتسي تونغ لمصالح الامبريالية”.
المثقف الداعية بعناوينه المختلفة صاحب الشوارب واللحية الثورية التي لم تعد تصلح الا لمسابقات القطط وصاحب الالبوم القديم عن ايام السجن والمزبن، ليس فقط ندم على ايام السجن والتتن والنضال المزعوم والاشتراكية بل صار يحلم اليوم ان يكون خادما لدى القوى التي كان يصفها بالرجعية ولو في صحيفة او قناة فضائية او اسطبل خيول لشيخ خليجي،
اما العداء القديم للامبريالية فلم يعد قائما فحسب بل صار جزءا من طلائع جيوشها في غزو الشعوب الفقيرة ووجد وظيفة جديدة بعد ان تخلى عنه حزبه الثوري لفشل المشروع ولعدم حاجته الى مسوغ برنامجه لفشل البرنامج نفسه، هذه المهمة الجديدة هي تسويغ مشروع الاحتلال بالمفردات القديمة نفسها والتلاعب بالالفاظ والعقول بل الحماسة نفسها وبلغة الخصومة نفسها .
الاعداء دائما اما خونة أو مرضى نفسيا يجب وضعهم في مصحات اجبارية على طريقة النظم “الاشتراكية” في معسكرات ومصحات اجبارية لاعادة التاهيل بالعقاقير والصعقات الكهربائية والتشهير.
يمكن قراءة كتاب البروفسور الروسي الطبيب كوياجين” مرضى رغما عنهم” الذي كان طبيبا في معسكرات اعتقال المثقفين واجبارهم على العلاج القهري حتى بالصدمات الكهربائية لتغيير افكارهم وموت الالاف او انتحارهم وحتى من يخرج يلاحق بالتهم في محيطه بتوجيهات سرية لعزله ولكي يشعر ان المشكلة فيه. يعتذر كوياجين لخيانة القسم كأطباء لكن رفاقهم في الشرق بلا سلطة لذلك كان التركيز على المعارات الشرقية الأخلاقية بدل الماركسية الخلاقة في سلوك يتسم بالافلاس الفكري والاخلاقي وهم أول جماعة مارست المحتوى الهابط منذ ثلاثينات القرن المضي وحتى في المنافي لكل مختلف معهم بالرأي ومن خلال مكتب متخصص بالتشهير ولم يسلم منهم رفاقهم بعد الحملة على الحزب اواخر السبعينات واطلقوا على من اضطر للاعتراف بلقب” الساقطين” مع ان الحزب خدعهم ولقنهم لسنوات في تحالف” أخوي نضالي” وفي خندق واحد وليس في خندقين وغير مستعدين لمواجهة ظروف عاصفة؛ وعندما التقيت بأحد أعضاء لجنة التشهير وهو اليوم عضو مكتب سياسي في كوبنهاغن الدنمارك في 15 ايلول 1993 في منزله بحضور صديق طفولة وسالـته عن مبرر هذا الوصم ، فأجاب انه كان” خطأ” ولم أعلق .
هذا الببغاء المسمى بالمثقف هو الوطني الوحيد والعاقل الوحيد في مملكة المجانين.انه بهلوان مهرج بصورة مثقف غير قادر على تصور ان منافسين جددا دخلوا عالم الثقافة والمعرفة ولم يعد وحده حارس التاريخ والحاضر والمستقبل كعلماء الجينات والطب والهندسة والوراثة وعلم النفس واللغات والفلسفة والفيزياء والنجوم والطقس وعلماء شفرات الوراثة ، لكنه ما يزال باللغة السياسية الدوغمائية الشعاراتية يفسر كل ظواهر الكون من انهيار البورصة الى انهيار راقصة في ملهى ومن السياسة في المكسيك الى الشعر الصومالي والياباني والاوروبي بل حتى تفسير مكونات اللبن والبطيخ ولا توجد ظاهرة في الكون إلا ويفسرها سياسياً دون ان يفسر شيئا ابدا.
هذا الايمان الابله بقدرة اللغة على التغيير بلا أي أساس واقعي،
هو وهم السحرة والمشعوذين وصانعي الأحجبة والرقى بلا أي فوارق سوى شكل اللغة لكن النتيجة واحدة: وهم تغيير الحياة بالكلمات بلا أي تجارب حقيقية مثمرة تكون خلاصة حياة سوى تجارب موظف في مكتب رمادي أو تحارب حانات أو مقاهي في حين تمكن المثقف الغربي من تجاوز أزمته الخاصة والعامة والارتقاء فوقها وعبور أوهامه وقدم خلاصة تجاربه بوضوح وشجاعة وجرأة حتى في نهاية السرديات الكبرى لانه لم يرفع الافكار الى مستوى دين جديد والى تحويل الفكر الى شرف كما فعل رفيقه الشرقي الذي يقود السيارة على طريق اليمين لكنه يشعل الضوء الخلفي الأيسر .
هو في العمق شيخ عشيرة ومريد وتابع وببغاء ملقن و”مؤمن” بأفكار بلا فحص ولا دراسة لكنه في الظاهر ” مثقف ثوري” بسبب العناد والحرن السياسي ولو كان الحرن وغرز الحوافير في الارض صفة ثورية لصار كل حمير الوطن ثواراً.